
عمرو أديب.. هكذا يكون المخبر

محمد مصطفى موسى
01 مارس 2018
إذا أردت أن تأتي بالغائب، وترد الحبيب، فليس عليك البحث عن شيخ مغربي، ممن تبث فضائيات الجهالة إعلاناتهم، ليل نهار، فيضرب لك الودع، ويفتح المندل، بل أن تلوذ بالأجهزة الأمنية، فهي التي «تبين زين» وهي وحدها التي تعرف في مصر، كيف تأتي بالتائه والشريد، وتُحضر الذئب مجرورًا من ذيله، وتجئ بالعجل ولو كان في بطن أمه؟
الأحمق فقط يتخيل أن جهاز الشرطة ليس على أعلى درجات الكفاءة، ولا يسمع دبيب النمل، في جُحوره، فأينما تكونوا يدرككم البوليس- متى أراد- ولعل اختفاء الوزير الأسبق، حبيب العادلي، ثم ظهوره قُبيل محاكمته بسويعات، ليحصل على البراءة، من قِبل الشامخ، ومن ثم يذهب إلى بيته آمنًا مطمئنًا، محض حادثة فردية، لا تعد دليلًا على التراخي أو الفشل، فالأمور في سياقها، والمعنى في بطن الشاعر!
الأشياء في مصر تسير بطريقة «جلا جلا»، ولا كذب ولا شعوذة، وهذا ما أفضى إلى ظهور شاغلة الدنيا زبيدة، بعد أربع وعشرين ساعة فقط، من تصريحات أمها لهيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» بأنها مختفية قسريًا، لتدحض الرواية، بصوت مرتعش، وعينين زائغتين، ووجه شاحب، عبر برنامج عمرو أديب.
الغائبة التي حضرت، كعفريت من الجن خرج من فانوس، كانت اختفت بمحض إرادتها، وحتى تتزوج رجلًا يبدو مُسنًا بالمقارنة بها، وعدم تواصلها مع الأم الملتاعة، إنما يرجع إلى مشكلات شخصية، لن تعلن عنها بالطبع، فالبيوت أسرار، بل إنها رغم مرورها بتجربة السجن أو الاعتقال، لا تفقه معنى مصطلح الاختفاء القسري، الذي يردده أهل الشر المتآمرون على الدولة، وتحيا مصر بالثلاثة!
وهكذا تكفي وزارة الداخلية، بواسطة أديب، على الخبر ماجورًا، فهل يمكن تكذيب المرأة التي خرجت بشحمها ولحمها لتروي على الملأ الرواية؟
نظريًا.. يبدو أداء المشهد وفق معايير العمل الصحفي، مهنيًا موضوعيًا: هذه هي بطلة القصة، تدلي بالتصريحات بعظمة لسانها، فما من مبرر إذن لـ«اللت والعجن»، وعلى الألسنة التي تلوك الخرافات، وتتشدق بكلام أمها، أن تتوقف فورًا، لكن القشرة الموضوعية والمهنية هنا، ليست كل شيء، ذلك أن ظهور زبيدة في سرعته، وفي فسيفساء صورته، وتحديدًا ما يتعلق بمظهرها الرث «المضطرب»، بالإضافة إلى أن بث اللقاء بعد المونتاج، وليس على الهواء مباشرة، يوحي بأن هناك خبايا ما خلف الستار، ومن ذلك ما قد يكون في كواليس التصوير التي لم نشاهدها.
هل بوسع أشد مؤيدي رواية زبيدة عبر برنامج أديب، وهي بالمناسبة الرواية الرسمية، أن يجزم بأن أقوالها لم تكن تحت ضغط ما؟
أليس واردًا أن ضابطًا غليظًا كان يتخذ موضعًا في ركن ركين، ينفث دخان سجائره، وهو يرقب بعينين جامدتين «المخبر» الصحفي عمرو أديب، وزبيدة وزوجها الذي حمل رضيعهما بذراعيه، ليدقق فيما يقال وما لا يقال؟
ألم يقل أديب في الحلقة التالية إن المقابلة أجريت في الداخلية؟.. هل يتخيل حالم رومانسي أنها حظيت قبل المقابلة بكأس من عصير الليمون الطازج، ثم همس أحد كبار الضباط في أذنيها: «اطمني يا بنتي وقولي الحقيقة بلا خوف»؟.. وماذا عن تصريحات أمها في الليلة التالية بأن ابنتها مكرهة على قول ما يرضي السلطة؟
أيما يكون من أمر، فالمؤكد أن تلك الملاحظات بما تحمله من شبهات، لا تجزم بكذب رواية الداخلية، التي نذكر لأحد وزرائها مقولته العبقرية: «معندناش خرطوش»، وقت كانت عيون «الورد الذي ذبل في حدائق مصر» تفقأ بواسطة «جدع يا باشا»، والذي لا ينساه إلا أصحاب ذاكرة السمك، كما لا تجزم بصحتها، لكن بعيدًا عن زبيدة بذاتها، فإن الصورة الكلية لا تنفي كارثة الاختفاء القسري إجمالًا، ولعل مبدأ «خذوهم بالصوت»، الذي اتبعه أديب، كالعادة، وهو ذو صوت من أنكر الأصوات، لا ينسف تقارير حقوقية مستقلة، منها تقرير لمركز النديم عن عام ألفين وخمسة عشرة، الذي يرصد أن عدد المختفين قسريًا بلغ أربعمائة وأربعة وستينًا.
ولا تقف المؤشرات الفاضحة، عند تقارير المراكز المستقلة، فالمركز القومي لحقوق الإنسان، التابع للحكومة، يكشف على لسان عضوه البارز حافظ أبوسعدة، عن تلقيه أربعمائة شكوى حول حالات اختفاء قسري العام الماضي، وقد أظهر التدقيق فيها أن مائتي وعشرينًا من المذكورين بها، محتجزون من قبل الأجهزة الأمنية، من دون منحهم حقهم الدستوري في الاتصال بذويهم، ولم توجه لهم اتهامات، فماذا يكون ذلك ما لم يكن اختفاءً قسريًا؟.. لعله «رز باللبن»!
ولا يستقيم النظر في تلك الأرقام، وغيرها مما يرد في تقارير أخرى، بمنأى عن صورة واسعة، من تفاصيلها القبيحة، أن الإنجاز الأبرز وربما الأوحد، لنظام الثلاثين من يونيو، هو التوسع في إقامة السجون، إلى حد أن الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، تكشف عن أن النظام شيد سبعة عشرة سجنًا، منذ عزل مرسي، حتى يونيو من العام الماضي، هذا بالإضافة إلى مشروعات أخرى لتشييد المزيد منها، وليس غريبًا أن تنطلق لذلك دعوات للتبرع، فالمواطن مطالب بسداد سعر كل شيء، حتى السجن الذي قد يأوي إليه، أو يختفي خلف قضبانه قسريًا، على أهون سبب، ومن دون سبب كذلك.
إن الجدل حول مساحة الصدق والفبركة، والحقيقة والاختلاق، في قصة زبيدة، رغم أهميتها كإنسانة أولًا، جدل بيزنطي هامشي، فالحق بين، والباطل بين، وبينهما مشتبهات، ستظل مشتبهات، في دولة الثلاثين من يونيو، التي طال منخارها ليبلغ عنان السماء، مثلما «بينوكيو» في القصة الإيطالية الشهيرة، عن الدمية الخشبية التي يطول أنفها كلما كذبت!
بوسع عمرو أديب إذن أن يفخر بخبطته الصحفية، وله أن يتباهى بأنه «مخبر شاطر»، يجري لقاءاته في حصون الداخلية المرصودة، لكن هذا الفخر، وذاك التباهي، لن يهدما أبدًا الشكوك، فالحقيقة الوحيدة في دولة الثلاثين من يونيو، أن لا حقيقة.