
صوت الحرية

محمد مصطفى موسى
08 مارس 2018
العيون تترقب في ذهول، الأعناق تشرئب، القلوب واجفة، النفوس التي كانت مليئة حتى ثمالتها بالغل والكراهية، رقّت ولانت، الهتافات التي كانت تحض السيّاف على قطع عنق الأسير تلاشت، بل إن همهمات خافتة أخذت تنبعث بين الحشود، طلبًا للرحمة.
لكن الجلاد ينفذ الأوامر، في كل حال، ذاك عمله يؤديه آليًا مثل روبوت، مشاعره تكلست إثر تآلفه مع صرخات ضحاياه، لا يخالجه تردد، أو تساوره الشفقة، إنه يعذّب بليدًا محايدًا بلا مشاعر، أو لعله يتلذذ بفعل التعذيب، وإذا قُرئت عليه كلمات صلاح جاهين: «كل يوم أسمع فلان عذبوه/ أسرح في بغداد والجزاير وأتوه/ ما أعجبش م اللي يطيق بجسمه العذاب/ وأعجب من اللي يطيق يعذب أخوه.. وعجبي».. إذا حدث ذلك، مط بوزه ازدراءً: هذا كلام الشعراء، يا لهم من حمقى ضعفاء، لو كانت لهم جدوى في هذه الحياة، لأصبحوا هم الملوك، إن القسوة غاية ووسيلة معًا.
وفيما كان الأسير ينتفض ألمًا، دنا الجلاد إلى أذنه: «اطلب الرحمة من الملك، عندها قد يأمر لك بالموت السريع».
شدوا ضلوعه بالحبال حتى تمزقت أربطتها، وغرسوا في لحمه المثاقيب الحادة، واعتصروا خصيتيه بوحشية.. إن الجلادين يتفننون في صب العذاب على ضحاياهم، ثمة نزوع بشري يبدو فطريًا إلى اقتراف الفظائع، هذا قد يفسّر سبب اختراع آلات الإيذاء، بدءًا من الكرباج، مرورًا بدق المسامير في العظام على الصلبان، فآلات نزع الأظافر، فالصعق الكهربائي، وصولًا إلى التعذيب النفسي، بل إن التطور الذي شهدته صناعة السلاح من السيف والرمح، حتى القنابل الذرية لا يمكن تعليله بمعزل عن ذاك النازع.
ها هي قوى الأسير تخور، يبدو إن إرادته انكسرت، شفتاه ترتعشان، لعله سيعلن الآن أمام الملأ من القوم، توبته عن الخروج عن طاعة الملك، سيصبح بتعبير مصري «مواطنًا صالحًا»، وسيتكرم جلالته بعدها بإصدار أوامره السامية، بأن يكفوا عنه التعذيب، فيكتفوا بإزهاق روحه فقط، لقد مزمز أوجاعه قطرة تلو قطرة، حتى صار يتمنى الموت.
ثوانٍ فارقة، إن طلب الرحمة ارتاح، وانتصر الملك.
صحيح أن جلالته يحتضر على سرير الموت، في برجه العاجي، غير أنه يصيخ السمع باهتمام إلى ضجة الساحة، إن النهاية ستحدد إلى حد كبير مستقبل مملكته.
إذا لم يدحر التمرد، بقبضة فولاذية، سيتكاثر شيعته، حتى يصيروا جيشًا عرمرمًا، خطورته إنه جيش يائسين، واليائسون يحاربون حتى النهاية.
متى خرج المقهورون من شقوقهم، صاروا كالسيل يجرف كل ما يقف أمامه، حتى الهرر حين تُحاصر في ركن، تسترد في ثوانٍ فطرتها البرية، تتحفز موروثات الافتراس في جيناتها، فتغدو نمورًا متوثبة، تخمش و«تبخُّ» في وجوه أعدائها، هكذا هي صراعات الوجود، والأحمق فقط هو الذي يرغم خصمه على هذا الخيار الأحادي: أنا أو أنت.
الصمت ثقيل، العوام الذين استحثت مشاهد العذاب المجرمة، مشاعر الرحمة في شرايينهم، صاروا يتمنون أن يتراجع الأسير، والعوام دائمًا طيبون، لم تدنسهم شهوة الحكم، ولا مكائد السياسة.
ها هو يتكلم، عساه يقولها، هي محض كلمات ترحمه، لكنه بعدما استجمع البقايا الأخيرة من قوته، هتف: حرية.. وهوت المقصلة ثقيلة حادة عمياء قاسية، لتطوّح رأسه.
كان ذاك المشهد الأخير من فيلم ميل جيبسون الأهم والأكثر شهرة: «قلب شجاع»، والذي أنتجه وأخرجه وأدى بطولته، النجم ذو الملامح التي يصنفها النقاد بأنها الأكثر مرونة وقدرة على التعبير، في منتصف التسعينات، وحاز عدة جوائز أوسكار ليس من بينها أفضل ممثل، في مفارقة تراجيدية مؤسفة، بالنسبة لعمل إبداعي يجسد ملحمة من ملاحم النضال.
أيما يكون من أمر، فإن المشهد في فسيفساء صورته المبعثرة، يستفز بالضرورة السؤال: هل كان الأجدى للمناضل الاسكتلندي أن «ينخُّ» في لحظة النهاية حتى يرحم نفسه؟
المواجهات الكبرى مع خصم يملك كل أسباب وآليات القمع والبطش والسحل والسحق، تثخن أصحابها بالجراح، لا محالة، لكنها من جهة أخرى، تصنع حالة توازن في القوى، فالضحية قد يصبح بثباته أقوى من الجلاد، وصرخة الألم التي تخرج من الحناجر الواهنة، قد تمرّغ سمعة القامعين الباطشين إلى الأبد.
مثلما صرخ ميل جيبسون: «حرية»، فارتعد الملك في برجه، قبل أن يموت بحسرته، واضطربت أفئدة زبانيته فزعًا، كانت هتافات جماهير الأهلي: «قلناها زمان للمستبد، الحرية جاية لابد».