انتخابات «أونطة»
محمد مصطفى موسى
28 مارس 2018
للمخرج وجهة نظر، قد تجافي الرواية المكتوبة، أو حتى تشوهها، غير أنه في النهاية يظل وحده المسؤول الأول والأخير عن الفيلم، هو صاحب الرؤية، وهو أيضًا الذي يتحمل العواقب، فإن راقت أفكاره للجمهور، صفقوا للعمل، وإن استسخفوها هتفوا: «سيما أونطة هاتوا فلوسنا».
أديبنا الكبير نجيب محفوظ أدرك هذه الحقيقة، فلم يشغل نفسه بالجدل البيزنطي، ولم يبدد طاقته الإبداعية في القيل والقال مع المخرجين، فقرر مبكرًا أنه يقبل الحساب في روايته، ولا علاقة له بالفيلم، وهو الأمر الذي أطلق العنان لمخرجين، منهم حسن الإمام، فعاثوا فسادًا في ثمار قريحته، حتى سحقوا روحها المكنونة، على غرار ما اقترفه «الإمام» ذاته بحق «الثلاثية»، فإذا بالتأريخ العميق والنقدي لحقبة بالغة الخطر من تاريخ مصر، يركز على عوالم العوالم، فلا نمر على السياسة والاقتصاد والاحتلال ونشوء الحياة الحزبية المبكرة، وانعكاسات تلك العوامل على النسيج المجتمعي، إلا مرور الغافلين الذين يحملون في طريقهم قشورًا يابسة، من دون أن ينفذوا إلى اللباب.
ولولا إن الصدف القدرية السعيدة، وضعت نُزرًا من رواياته، بين يدي المبدع الكبير صلاح أبوسيف، لما عرف ملايين البسطاء، عظمة أديب نوبل في «بداية ونهاية»، ولا «القاهرة 30»، ولا أدركوا حلاوة «تضفيره التفاصيل»، كنساج إيراني يعكف على سجادته، ولا بهرتهم معرفته الموسوعية بمناهج التحليل النفسي، فإذا بشخصيات رواياته تجمع بين المتناقضات، فتجنح إلى الشر والخير معًا، وتتنازعها الرغبات الشريرة، والعواطف الطيبة في آن واحد.
عظمة الأعمال التي جمعت الثنائي المبدع، محفوظ وأبوسيف، تعود إلى أن المخرج تعامل مع النص بأمانة، أو فلنقل بنزاهة، فالمخرج قرأ النص الأدبي فتأثر به وجدانيًا، فقرر إعادة طرحه سينمائيًا، هكذا ببساطة، من دون أن يقول: «عندي رؤية مغايرة»، أو يدعِي أنه وحده الذي يملك ناصية الإبداع.
إن مجرد اختيار نص أدبي ما، يعني الإعجاب به، ومن ثم يستلزم الأمانة في طرحه، إذا كان المخرج لا يرضى عن العمل، فبإمكانه تخير آخر، وبوسعه كذلك أن يكتب «على مزاجه»، من دون أن يمسخ إبداع الأديب، وأية تعديلات على النص، لا يجب أن تمس روحه، أو تجافي وجهة نظر الرواية.
ومن الحكايات الطريفة على تغوّل السينمائيين على النص الأدبي، ما فعله الثنائي السيناريست صبري عزت، والشاعر عبدالرحمن الأبنودي، برواية «شيء من الخوف»، حيث طلب حسين كمال منهما، لمّا أراد إخراجها، وضع السيناريو والأغنيات، فإذا بهما يقلبان الطاولة على الأديب ثروت أباظة، فيجعلان شخصية عتريس نموذجًا للديكتاتور الفظ القاسي، وكان ذلك بعد النكسة بنحو عام، الأمر الذي غمز ولمز من قناة عبدالناصر، ما حدا بسليل العائلة الأباظية إلى التبرؤ من الفيلم، خوفًا من العقاب، هذا قبل أن يتباهى بعد رحيل ناصر، بأن عمله كان الصيحة الوحيدة في وجه الديكتاتورية، ليحصد الثمن: حقيبة وزارة الثقافة في المرحلة الساداتية!
أيما يكون، فالظاهر أن منهج أديبنا نجيب محفوظ إزاء رواياته بعد معالجتها سينمائيًا، يظل المنهج الأمثل: «لقد كتبت رواية، ولك أن تناقشني فيها، فترفض أو تقبل، وتمدح أو تهجو، أما الفيلم فليس مني»، بهذا ارتاح واستراح، فانصرف عن سفاسف الأمور، إلى الكتابة التي أثرى بها وجداننا، وأمتع ذائقتنا، ولبى حاجتنا إلى الجمال.
إن التدخل من قبل المخرج في العمل الأدبي، قد يقطع العلاقة بين المكتوب والمرئي، وتتسع تلك القطيعة، متى كان ذاك التدخل جائرًا، بل إن العمل يتهافت كليًا، متى استكبر المخرج على رؤية الأديب، فاعتبر أنه وحده الذي يعرف، وتوهم أنه طبيب فيلسوف!
في مشهد الانتخابات الرئاسية، الواضح أن المخرج أراد الاستئثار بالعمل كله، وسعى إلى فرض رؤيته، ولو بالقوة الغاشمة، ومن ثم قرر الخروج عن المنطق، وجنح إلى المبالغة في الأداء، فإذا بالعملية التي يفترض أنها سياسية تزدحم بمشاهد درامية ملفقة، على غرار إصرار مشلولة على التصويت، وحرص معمرة على تأدية الاستحقاق الدستوري، هذا بالإضافة إلى تصويت العرسان بملابس الزفاف، ناهيك عن جموع الراقصين والرقّاصات.
متاجرة رخيصة وفاضحة ومفضوحة، أسفرت في النهاية عن خروج الأمر مبتسرًا عاجزًا عن الإقناع، أحداثه لا معقولة، فإذا بالجمهور الذي يرى بأم عينيه أن اللجان كصحراء الربع الخالي، يستسخف الخديعة، ويرفض أن يستسيغ البيانات الرسمية عن نجاحها، ولسان حاله كجمهور السينما: «سيما أونطة» أو بالأحرى «انتخابات أونطة»!