
الانبطاح الدافئ

محمد مصطفى موسى
21 فبراير 2018
سواءً كُنتَ «سيساويًا» تُسبِّح بحمد طبيب الفلاسفة بُكرةً وعشيًا، أو تحمل لقب: «مواطن شريف»، بمقتضى «صكوك غفران» إعلام العار، أو كنت مثلي ممن يقال لتعريفهم «الطابور الخامس»، أو ثوريًا أو دولجيًا أو إسلاميًا، إلى آخر لائحة التوصيفات الطويلة، التي تُستخدم غالبًا على سبيل السب والقذف، وفي معرض التنابز بالألقاب، بعد «فتنة» الثلاثين من يونيو، التي قسمت المصريين شيعًا وطوائف تعادي بعضها بعضًا، ومن ثم قصمت ظهر البلد.
أيما يكون موقفك السياسي، أو مرجعيتك الفكرية والأيدولوجية، ليس بوسعك أن تنكر أن ما سماه عبدالفتاح السيسي ذات مرة بالسلام الدافئ، قد غدا أكثر من ذلك، أو تحريًا لدقة المصطلحات، قد غدا أكثر انحطاطًا ودناءة، ولعل السياسة المصرية، لم تكن في أية مرحلة من مراحلها متماهية في العدو الصهيوني، كما هي اليوم، وحتى حين اقترف السادات كامب ديفيد، كانت هناك مساحة ما، أو خطوط حمراء لا ينبغي وطؤها.
شواهد الانبطاح الرسمي أمام الصهاينة، لا تعد ولا تُحصى، ولو كان البحر مدادًا لها، لنفد البحر قبل أن تنفد تلك الشواهد، فمن تصريحات لزجة، تندلق من شفتي رأس النظام ووزير خارجيته، الذي لا يزيد عن كونه مجرد سكرتير، يتلقى الأوامر فيهز رأسه موافقًا: «أوامرك يا فندم»، إلى مواقف رسمية مخزية في الأمم المتحدة، على نحو سحب قرار إدانة المستوطنات، إلى تسريبات تنبثق بين الفينة والأخرى، من تل أبيب، فتفضح البون الواسع بين الخطاب المخصص للسوق المحلي، والآخر الذي يجري تصديره إلى «أبناء العم»، ومن ثم إلى صفقة القرن التي لا نعرف عنها الكثير أو القليل، أللهم إلا تصريحات للرئيس الأمريكي «المفضوح» ترامب، يكشف فيها عن أنها ستشمل تبادل أراضٍ بين دول عديدة، إلى مباحثات العقبة السرية، التي يكفي أنها سرية حتى يلعب الفأر في العِب، إلى التفريط في جزيرتي تيران وصنافير المصريتين، إلى تسريب مكالمات يقال إنها تضمنت تعليمات للإعلاميين، بشأن توجيه الأذرع الإعلامية، لتمهيد الرأي العام، إلى استساغة «صهينة» القدس المحتلة، وقبل ذلك التسريب الصوتي ليوسف زيدان، وهو يعترف بتلقيه تكليفًا من رأس السلطة، بتحسين صورة العدو، لدى العامة، وهو ما ينفذه تنفيذًا مخنثًا حقيرًا، حتى لو حلف على المياه تجمد بعدم صحة الأمر.
مع هذه اللائحة الكريهة والممتدة، لم يكن توقيع عقد استيراد الغاز من العدو الصهيوني، بقيمة خمسة عشرة مليار دولار، على عشر سنوات، بعد الأفراح والليالي الملاح، بتدشين حقل «ظُهر» الذي اعتبره النظام فتحًا مبينًا، ودفع بأنه سيحقق الاكتفاء الذاتي، قرارًا مفاجئًا، أو خارج سياق المشهد الكلي، ولعل الأمر لا يستدعي السؤال حول الجدوى الاقتصادية، وإنما حول ما وراء الارتماء كليًا، والارتهان كليًا، والانسياق كليًا، وربط مصير مصر كليًا، بالعدو رقم واحد لها، وهو كذلك حقًا، وسيبقى كذلك، رغم أنف السلام الدافئ، ورغم أراجيف دعاته وسدنة معبده.
هي صفقة في إطار الانبطاح من دون مواربة، والتبرير الرسمي بأن الحكومة لم توقع شيئًا، وإنما هي شركة «دولفينوس» الخاصة، لا يواري البطحة الغائرة على رأس النظام السياسي، بل إن دحض هذا التبرير، أو بالأحرى هذه الخرافة سهل للغاية، بالرجوع إلى الوراء قليلًا، وتحديدًا إلى شهر يونيو من عام ألفين وخمسة عشرة، حين كشفت الشركة ذاتها، عن تلقيها إخطارًا من الحكومة، بتجميد مفاوضاتها مع تل أبيب، بعد قرار تحكيمي دولي بتغريم مصر مليارًا وسبعمائة مليون دولار، جراء وقف تصدير الغاز بعد الثورة، وبديهي أن من يملك أن يأمر بقطع المفاوضات، يملك أن يأمر كذلك باستئنافها، أو على الأقل يمكنه التغاضي عنها.
كما أن المقدمات جميعها، تؤكد أن الترتيب للصفقة قد جرى وفق عبارة نظيم شعراوي في فيلم «طيور الظلام»: «احنا ناس لازم الباطل بتاعنا يبقى قانوني»، وعلى هذا المنوال، جاء إقرار اللائحة التنفيذية لقانون يتيح للقطاع الخاص استيراد وتصدير الغاز، قبل ستة أيام فقط من توقيع عقد الصفقة.
الواضح بجلاء إن «صفقة الباطل» تلك، أريد لها على الصعيد الرسمي، أن تحظى بورقة توت قانونية، وهو أمر لا رد فعل أمامه إلا الضحك والبكاء في آن، تمامًا مثل رد الفعل إزاء استخراج المرشح الرئاسي موسى مصطفى موسى، كالأرنب من قبعة ساحر، بعد استبعاد المرشحين ذوي الحظوظ، حتى تغدو الانتخابات ذات مظهر قانوني، ويصبح الباطل من حيث الشكل قانونيًا، لكن هذا بالطبع لا ينفي بطلانه على الأقل أخلاقيًا، وإن الباطل كان زهوقًا.