فرعون هذه الأمة

فرعون هذه الأمة

محمد مصطفى موسى

محمد مصطفى موسى

25 يناير 2018

 

«هؤلاء، إنما يتبخترون على صدورنا».. بهذه العبارة، الومضة الخاطفة، وصف أديبنا الكبير نجيب محفوظ، واقع الناس والفتوات، في روايته التي لا تزال تثير غبار الجدل: «أولاد حارتنا».

 

كان الفتوات مكونًا أصيلًا في تراث محفوظ الروائي، الذي سجله كما يقول، متأثرًا بمشاهدات الطفولة: «كنت أتفرج على الفتوات الذين يجيئون بعد معاركهم في الخلاء، إلى الجمالية، مضرجين بدمائهم، تثخنهم الجراح، وكانت أمي تشدني من الشباك، فتنشب بيننا المشاكل، فالطفل يريد الفُرجة والأم تريد أن تنأى به عن تلك المشاهد القاسية».

 

ولم يكن الفتوة نموذجًا إنسانيًا نمطيًا ومقولبًا، في روايات محفوظ، ففي «الحرافيش»، يأتي عاشور الناجي مثالًا للقوة الرشيدة، حين تُسخّر لخدمة الضعفاء، ممن يدربهم على حمل النبوت، ويشعل في نفوسهم نيران الحماسة، كي يتصدوا لمن يقهرهم بأنفسهم، حتى إنه يختتم ذاك العمل الملحمي، بعبارة للناجي: «أللهم صُن قوتي وزدني منها لخدمة عبادك الصالحين».

 

لكن هذا النموذج، لم يأتِ إلا في سياق أنه استثناء، لا يقيم قاعدة، ولا يقرر واقعًا، بقدر ما ينفيه، ويبدو أن ذلك يرجع إلى أن أديبنا، كان في قرارة نفسه يبصر ذاته باعتبارها «ذاتًا حرفوشية»، ومن ثم كان انحيازه للحرافيش، فهو في حياته المهنية موظف حكومي يلتزم الانضباط الصارم، كالملايين من جموع البسطاء، وهؤلاء لا ينبغي أن ينتظروا مُخلصًا ينقذهم، بل إن عليهم أن يرفعوا «النبوت» في وجه من يقهرهم، حتى يستردوا حريتهم، من الباطش الذي قد يبدأ «فتونته» صالحًا منحازًا للناس، ومن ثم تسيطر نوازع الشر عليه، فيستحيل لعنة تنصب على الذين حملوه فوق الأعناق، ومثال ذلك: «فرج الجبالى» الذي جسده محمود عبدالعزيز فى فيلم «الجوع»، المأخوذ عن «الحرافيش».

 

ففي أول عهده، يتعهد الفتوة أمام الأهالي أنه لن يغبن أحدًا حقه، لكن حلاوة الحياة الناعمة، تغره شيئًا فشيئًا، فينقلب غولًا ليس في قلبه مثقال ذرة من رحمة، يعاقر الخمر، ويستلذ بالعلاقات النسائية الرخيصة العابرة، وهذا دأب الفتوات على الأرجح، أما الذين يصدقون أسطورة المستبد العادل، فإنما هم حمقى، يضعون رقابهم طواعية تحت سكين القصّاب، ومن ثم يستجدون منه الرحمة!

 

وإذا كان «الجبالي»، قد بدأ صالحًا، فإن آخرين توحشوا منذ البداية حتى النهاية، ففي فيلم «شهد الملكة»، يمثل صلاح قابيل، الفتوة «نوح الغراب»، الذي يُجنّدل خصومه بضربات نبوته الغليظ، ثم يعود إلى الحارة فيلتف حوله الأهالي يهتفون بحياته، بباعث من الخوف، وهو يقف وسطهم منفوشًا، متجهمًا، تزيد عينه المفقوءة ملامحه قسوة، وهذه العاهة بالإضافة إلى الاسم: «الغراب» معًا، يمثلان رمزًا أراد محفوظ أن يُظهر به التشوه الروحي والأخلاقي لتلك الشخصية السيكوباتية.

 

ومما يسترعي الانتباه، أن نهايات الفتوات تتسم عند محفوظ، بالدراماتيكية الفجة، ففي «الشيطان يعظ»، يموت فتوة العطوف «الديناري»، الذي أداه العبقري عادل أدهم، على يد «شطة» وهو صبي تافه، جسد دوره نور الشريف، بطعنة مباغتة إلى قلبه، إثر معركة بينهما، بعدما قهره الفتوة واغتصب زوجته أمام ناظريه، إمعانًا في كسره.

 

الخلاصة: إذا أردت أن تكون فتوة، فعليك أن تحسب العواقب جيدًا، ذلك أنك كلما «تفرعنت»، كلما كان حسابك ثقيلًا، وستسدده من دون شك، في لحظة ما، وعلى الأغلب على يد أحد التافهين.

 

تلك الحكمة من حكايات فتوات محفوظ، التي استقاها فيما يبدو، مما شاهده طفلًا من شباك بيته، وتلك سنة الله في الكون، فأبوجهل الذي وقف بين جيش الكفار يوم بدر، فأعجبته كثرتهم، فقال: «لا نرجع حتى نرد ماء بدر، وتعزف القيان، وتدق الطبول، وتسمع بنا العرب»، سقط بعدها بسويعات على يد معوذ ومعاذ، وهما مراهقان في نحو السادسة عشرة من عمرهما، ولما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «هذا فرعون هذه الأمة».