
ما تخافش من «الشرطة».. خاف من «بياناتها»!

محمد مصطفى موسى
30 يناير 2018
إذا كان الكلام بيانًا لوزارة الداخلية، فعلى المواطن أن يتحسس أعضاءه إياها، أو بتعبير دارج «بندوله» كي يستوثق من أنه لم «يُفرقع» بعد.
المواطن المقصود هنا، ليس بالطبع الذي أسبغت عليه أبواق السلطة لقب «الشريف»، ممن ينتمي إلى قطعان المسجلين خطرًا والبلطجية، الذين يُزج بهم إلى ساحات الوغى، للاعتداء على المتظاهرين، فيتفاحشون ويُقبّحون ويردحون، أو ممن يحملون علم السعودية، تأييدًا لبيع جزيرتي تيران وصنافير، ويعتدون برعاية الشرطة على رافعي العلم المصري، ولا هو المواطن الذي أدمن مخدرات الإعلام الضال المضلل، وإنما الذي يأبى رمي عقله في سلال القمامة، ليجعل تحت عظام جمجمته عوضًا عنه «فردة جزمة»، أو «بيادة».. لا فرق.
في البيان بشأن جريمة الاعتداء على المستشار هشام جنينة، والمنسوب كالعادة لمصدر أمني غير معلوم، ربما لأنه مصدر خجول، أو لعل اسمه لا «يُكشف على مواطنين»، تعمدت الداخلية مع سبق الإصرار والترصد، تصوير الجريمة، كما لو كانت جنائية، بل الأكثر من ذلك دفعت بأن المجني عليه، الذي تجاوز الستين، تشاجر مع ثلاثة رجال شداد غلاظ، فضربهم وضربوه، على غرار الفريق أحمد شفيق الذي «قتل واتقتل».. وأيضًا انسحب!
وحتى تُستساغ الرواية «الحمضانة»، وزّع الإعلام الأمني صور الـ«فحول»، الذين قيل إن رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات السابق، ورجل القضاء أيضًا، قد أوسعهم ضربًا، وهم «يا كبدي عليهم»، مصابون إصابات بالغة، ومن الصور، واحدة لجسيم متين، على «خده الملظلظ» خدوش وخرابيش، ما يرجح أن أظافر المستشار جنينة لم تكن مُقلّمة، وهكذا يكون الرجل قد ضُبط متلبسًا بحمل سلاح أبيض، وتلك جنحة عقوبتها في حدها الأدنى ستة أشهر سجنًا.
كما تؤكد الصور وحشية المستشار جنينة، حيث ظهر فحل ثانٍ وسرواله ممزق من عرقوبه إلى ركبته، ما يفضي إلى استنتاج بأن الأمر لم يكن محض مشاجرة، وإنما محاولة تحرش تهتز لها سبع سموات، فأعوذ بالله من الخبث والخبائث.
كل ذلك محض هزل في معرض الجد، والواقع أن إخضاع بيان الداخلية لمعايير النقد، في ضوء ملابسات الجريمة، هو من الهطل والسذاجة، ولعله ليس منطقيًا إزاء الهزل أن تُستقصى الإجابات المنطقية، على أسئلة مثل: كيف يجرؤ الرجل ذو الستين على التشاجر مع ثلاثة أشداء وهو في طريقه إلى المحكمة لنظر طعنه على إقالته؟.. وهل هي مصادفة أن يحمل أولئك أسلحة بيضاء منها «سنج وهراوات»؟ وهل وجود هؤلاء على طريق التجمع الخامس في الثامنة صباحًا، رغم أنهم يقطنون وسط البلد محض صدفة أيضًا؟ وماذا عن أن أحدهم مسجل خطرًا وله سوابق بلطجة؟
أسئلة لا يُتوقع أن يطرحها الإعلاميون المأجورون، ولا أن تسترعي اهتمام السادة في الأجهزة الأمنية، فالمنهج هو «خليهم يتسلوا»، والمنطق في مصر مات منذ الثلاثين من يونيو، ربما يوم أسر قائد الأسطول الأمريكي، وكشف مؤامرات مجلس قيادة العالم، وتورط الدمية «أبلة فاهيتا» في الجاسوسية، إلى آخر قائمة السخافات.
على أنه بمنأى عن الملابسات الفاضحة، التي تُعرّي تهافت الأجهزة الأمنية، وتجعل الجريمة أقرب شبهًا بجرائم عصابات المافيا، ثمة شاهد مهم ومحوري يعزز فرضية التعمد المسبق، فممارسات دولة الثلاثين من يونيو إجمالًا، تؤكد أنها تتحرك بباعث من الغل، أو بتعبير العامية الدارجة هي سلطة «غلاوية»، ذات قلب أسود، ليست تعرف التسامح، مع الذين يقولون في وجهها: لا.
يتأكد ذلك من شواهد على غرار: القبض على نجلة الدكتور القرضاوي عُلا وزوجها، بتهمة تمويل الإخوان، ومصادرة أموال وممتلكات عناصر الجماعة، وأيضًا تغيير اسم ميدان رابعة العدوية إلى الشهيد هشام بركات، على سبيل المكايدة والإغاظة، وكذلك اقتحام نقابة الصحفيين، في عدوان غاشم، انتقامًا من المظاهرات على سلالمها: بؤرة انبعاث الرفض في مصر، يوم جمعة الأرض، والشواهد السابقة في المجمل، هي غيض من فيض.
والحقيقة أن المستشار جنينة قال لا، في غير مناسبة، فالرجل قال لا لإقالته من المركزي للمحاسبات، بعد أن قال لا للفساد، وانضم لحملة المرشح السابق الفريق سامي عنان، وهذه الـ«لا» على التحديد، ليس ممكنًا التغاضي عنها، ألم يهدد طبيب الفلاسفة بعظمة لسانه كل من تسول له نفسه ممن سماهم الفاسدين والذين يحددهم وفق معاييره هو، باعتباره الخصم والحكم، من مغبة الاقتراب إلى كرسيه؟
إن الاعتداء على المستشار جنينة، ومن ثم تصويره بلطجيًا رهيبًا، في بيان ساذج يمكن بغير مبالغة وصفه بـ«خِلفة الهبلة»، كان بغرض تأديبه وقطع لسانه وإرسال رسالة إلى غيره: هذا مصير الذين يرفضون، لا عاصم لأحد من البطش، لكن الرسالة بما حفلت به من حماقة و«غشومية»، استدرت التعاطف معه، والسخط من سلطة تفرعنت وتوحشت، حتى صارت عبئًا على حلفائها أكثر من خصومها.