
آخر لحظات الديكتاتور

محمد مصطفى موسى
06 فبراير 2018
دبابتان فقط، لا أكثر، كانتا تتبختران في شوارع العاصمة بغداد.
المدينة التي عصرتها قبضة الديكتاتور القاسية، نحو ربع قرن، استحالت أطلالًا هجرها سكانها، فلم يعد يُسمع في جنباتها: "صريخ ابن يومين"، تبخر الناس، فلا مقاومة شعبية، أو نظامية، لقوات لـ«العلوج»، كما كان يسميهم وزير الإعلام الصحّاف، الذي فر مع أقرانه البعثيين «العبثيين» بجهازهم الأمني والاستخباراتي الذي كان يعد على العراقيين أنفاسهم، والذي كان يقتاد كل من ينبس ببنت شفة في نقد «الزعيم المفدى» إلى غياهب السجون، حيث نزع الأظافر، وحرق الجلد، والتعذيب حتى الموت، والإذابة في الأحماض الكيماوية.
دبابتان فقط تتبختران، على ضفاف الفرات، في مشهد متعجرف، حمل الرسالة إلى الأمة: هذه عاصمة الخلافة، تجثو على قدمي أمريكا، إنّ لنا الكلمة الأولى، واليد الطولى، فلا يخرجن أحدكم عن طوع البيت الأبيض، ففي عالم القطب الواحد، فإنما العصا لمن عصى.
قبل دخول القوات الأمريكية بغداد، بث التلفزيون العراقي الرسمي، اجتماعًا للحكومة برئاسة صدام حسين، الذي جلس وسط رجاله ممن تزيَّوا عسكريًا، ووضعوا المسدسات الحربية حول خُصورهم، ومن أخذوا يلقون على مسامعه بيانًا بشأن القتال ضد الغزاة على الجبهات، فأخذ هذا يسهب في الحديث عن صمود الشعب، وذاك يملأ شدقيه بعبارات مدوية عن المقاومة الباسلة، فإذا بالقائد المهيب يبرم شاربه الكث، ويسحب نفسًا عميقًا من سيجاره الكوبي الفاخر: "صحيح.. ما يعرفون العراقيين"، منتشيًا بما يظن أنه نضال من أجله هو.. لا شيء إلا هو، له الملك وحده.
هكذا كان الديكتاتور يظن، وإن ظن الديكتاتور دائمًا إثم، كان يحسب أن الناس على قلب رجل واحد، مستعدون لبذل دمائهم من أجله، فهؤلاء هم جموع الشعب، كما تصورهم له صحافته وتقاريره الأمنية، فالشعب من طينة واحدة، جميعهم مؤيدون مسبّحون مهللون، ولا معارضة اللهم إلا «فئة مندسة» أو «أشرار»، وأذرع لمؤامرات أجنبية، تريد هدم المجد الذي وقف الخلق جميعًا ينظرون كيف وقف يبينه وحده؟
أما بقية القصة فمعروفة، بدءًا من خروج المهيب العظيم كجرذ من جُحر مرورًا بمحاكمته الهزلية طبعًا، وصولًا إلى حبل المشنقة.
مأساة متكاملة فيها من الميلودراما الشيء الكثير، وفيها ما يستثير عجب البعض وإعجاب البعض الآخر أيضًا، لكن تلك المشاعر في المجمل، لا تنفي أن السقوط كان مدويًا ومفاجئًا، وقت كان الديكتاتور يحسب أنه في «برج مشيد»، بمنأى عن بطش أعدائه.
في زاوية أخرى من العالم، وقبل سقوط صدام بنحو عشرين عامًا، كان ديكتاتور رومانيا العتيد تشاوسيسكو، قد سقط بين أيدي رجاله، ممن قرروا تصفيته جسديًا مع زوجته إلينا، بعد ثورة شعبية عارمة، خرج الملايين فيها للخلاص من الطاغية، بعدما أحكم قبضته أيضًا على مفاصل الدولة وأجهزتها الأمنية، وعلى رأسها الشرطة السرية «سيكوريتاتي»، التي كانت أعنف قوات الشرطة السرية في العالم.
كان الرجل الذي حكم البلاد أربعة وعشرين عامًا، قد اتخذ قرارات خشنة إزاء حرية التعبير، إلى درجة أن جحيم الاتحاد السوفيتي الأسبق كان بالنسبة لحكمه نعيمًا، كما تفشت مظاهر الفساد، ونقص الغذاء والوقود والطاقة والدواء، لكن رغم ذلك أمر بـ«تمجيد صورته»، فإذا بها تتصدر الميادين والساحات والملاعب والمؤسسات الحكومية، فإذا بالمواطن المقهور الجائع المعدم، أينما يولي وجهه يجد وجه تشاوسيسكو، على غرار الأخ الأكبر في رواية «جورج أوريل» الأشهر: 1984.
ويبدو أن الأوهام التي كان يرددها الإعلام، والصور التي كانت في كل مكان، والمقتطفات التي تبثها التلفزيونات والإذاعات، من كلمات القائد «طبيب فلاسفة» الرومان، قد سكنته شخصيًا، فصدق نفسه، وتعامى عن حقيقة أن الناس تلعنه في السر، خوفًا من هراوات رجاله، وإيثارًا للسلامة.
وبقيت الأوهام تسيطر عليه، حتى صارت فوهات البنادق الحربية إلى صدره، فإذا به يصرخ في الحراس: «كيف تجرؤون؟ هل ستقتلونني وأنا مؤسس رومانيا الحديثة؟.. كيف تفعلون؟».. ولما لم يعره أحد أذنًا، وأدرك أن ساعة الحساب حانت، ارتعش كفأر في مصيدة، إلى جوار زوجته، حتى اخترق الرصاص لحمهما، ليسقطا معًا.
الديكتاتور في العادة لا يعلم حقيقته، كذلك قال كل طاغية في التاريخ: «أنا ربكم الأعلى»، و«ما علمت لكم من إله غيري»، حتى يأتيه العذاب، وإن كان في بروج مشيدة، لكن إلى جانب هذا النموذج المثالي، ثمة نموذج آخر، غريب حقًا، حيث يعلم الديكتاتور يقينًا أنه مكروه ممقوت، ويدرك بؤس حاله، فيمعن في وحشيته، ويغلق المجال أمام منافسيه، ثم يزعم أنه يتمتع بالإجماع الشعبي، ويردد كلما تدحرج في الفشل: «أنتم الذين اختارتموني.. وقد صارحتكم بأنكم ستتعبون معي».