تجربة رهيبة

تجربة رهيبة

أسامة غريب

أسامة غريب

28 يونيو 2017

 

هل يمكن أن يتعرض الإنسان للموت بفعل الشمس الحارقة في قيظ شهر يوليو وهو لا يعمل في مكان مكشوف ولا ضل سبيله في الصحراء؟

 

في مثل هذه الأيام من العام الماضي كنت في زيارة للكويت، وقد عنّ لي أن أنزل إلى جمعية الشرق التي تقع على مقربة من الفندق الذي أقمت به لشراء بعض الأشياء. الجمعية هي السوبر ماركت التعاوني الموجود بالحي، والمسافة إليها تحتاج إلى أقل من عشر دقائق، لكن مَن المجنون الذي يمشي في هذا الجو؟ من خارج الفندق أخذت سيارة أجرة أوصلتني في ثواني. فرغت سريعاً من شراء ما أردت وقررت ألا أتلكأ حتى ألحق موعدي مع شخصية هامة على الغداء. حين خرجت من الباب لفحني الصهد فخطوت سريعاً إلى الشارع ألتمس سيارة أجرة.. مرت دقيقتان دون أن تظهر أي سيارة فأحسست أن نافوخي يغلي من الحرارة. ارتددت بسرعة صوب الجمعية واحتميت داخلها من النار.

 

عاودت الخروج مرة أخرى بعد أن انتعشت قليلاً من الهواء المكيف. يا إلهي.. أين سيارات التاكسي التي تقف في العادة خارج الجمعيات؟ طال الوقت وبدأت أشعر بصداع وكنت أخشى أن أصعد السلالم للخلف مرة أخرى للاحتماء من الشمس فيمر التاكسي في نفس اللحظة فقررت أن أقف حتى أظفر بواحد وأعود سالماً. بعد فترة اكتشفت أن هذا المخرج أو المدخل ليس هو الباب الرئيسي لجمعية الشرق، لكنه باب فرعي يطل على مكان غير مأهول.

 

عند هذا الحد قررت أن أستعين بصديق.. أي صديق ينجدني ويأتي ليقلني أو على الأقل يطلب لي سيارة أجرة. دخلت إلي الجمعية مرة أخرى وتنفست من جديد ثم مددت يدي لأخرج المحمول لكنني أخرجتها فارغة.. يا الله.. لقد نسيت التليفون في الفندق .. أي حظ هذا؟ عبرت الممرات ووصلت إلى الباب الآخر المملوء بالحياة حيث المطاعم والساحة الكبيرة التي تعج بالسيارات. لمحت تاكسياً كان قد أنزل زبوناً ويتأهب للانطلاق فعدوت نحوه صارخاً، غير أنه لم يسمعني ومضى أمام عيني وتركني أمضغ غيظي. الوقوف على السلم يكفل لي الحماية من الشمس لكنه لن يسمح باصطياد سيارة أجرة إلا إذا توقفت أمامي، لكن على الرصيف المقابل بعد ساحة السيارات يوجد الشارع الذي تمضي به السيارات..

 

انتظرت قليلاً دون طائل فلم أر بداً من النزول والذهاب إلى الرصيف حيث رفعت يدي عالياً في انتظار أن يتعطف أي إنسان ويرق لحالي. يبدو أن هذا اليوم ليس من أيام سعدي فكل التاكسيات التي تمر أمامي مشغولة.. عمار يا مصر.. لو أن هذا حدث في القاهرة لتوقف التاكسي حتى لو كان به أربعة ركاب!

 

لا أستطيع أن أتحمل الوقوف أكثر من هذا.. إن ضربة الشمس تقترب وبعد قليل قد أفقد الوعي. جريت بأقصى سرعة نحو باب الجمعية لأستريح وأفكر ثم أخرجت زجاجة مياه غمرت بها رأسي. فلأفكر في هدوء حتى أصل لحل لهذا الموقف العبثي.. فعلاً الموقف عبثي بامتياز. من الممكن أن أهلك وأفقد حياتي لو ظللت على الرصيف في انتظار حضرة التاكسي. أيمكن أن يحدث هذا وأنا في قلب واحدة من المدن الحديثة ولست في صحراء الربع الخالي؟

 

البديل هو أن أنتظر في الداخل حتي تغرب الشمس ويصبح الخروج ممكناً، لكن كيف هذا وأنا ملتزم بموعد هام وضروري؟ دخلت في قلب الجمعية وسألت البائعين إذا كان في إمكان أحدهم أن يطلب لي تاكسي وله الأجر والثواب. يبدو أن وجهي الأحمر ولهفتي قد جعلت أحدهم يخرج هاتفه ويجري المكالمة المأمولة ثم بشرني بأن التاكسي في الطريق. انطلقت نحو الباب ووقفت على السلم أدعو ألا أكون في طريقي للمرض حيث بدأت أشعر بطنين في أذني وصداع يعصف برأسي مع فقدان للتوازن. طال الانتظار ولم يحضر التاكسي. وضعت شنطة المشتروات وجلست على الأرض لا أدري ماذا أفعل، وكنت أنظر للبشر الذين يملؤون المكان وأتساءل: أليس في وسع أحد من هؤلاء أن يساعدني.. إنني على استعداد أن أدفع أي مبلغ مقابل أن أعود للفندق.

 

لمحت شاباً له ملامح الهنود توجهت نحوه وسألته أن يوصلني بسيارته بأي مقابل لكنه رفض. نظرت للباقين فوجدت عائلات تتوجه كل منها نحو سيارتها.. لا أستطيع بطبيعة الحال أن أطلب توصيلة من رب أسرة يقل عائلته. الوقت يمضي وحالتي تزداد سوءاً. قمت بغمر رأسي بالمياه مثلما كنت أفعل أثناء مناسك الحج وعبرت إلى الرصيف ونظرت إلى السيارات المسرعة.

 

بعد دقيقة واحدة جف شعري فرجعت للجمعية. تكرر هذا الموقف عدة مرات.. نزول إلى الرصيف ثم ارتداد إلى الداخل. كان التعب قد نال مني وزاده توتر أعصابي مع اقتراب الموعد. دخلت إلى أحد المطاعم فخفّت إلى النادلة الآسيوية وعرضت أن تأخذني لإحدى الموائد. قلت لها: إنني لست جائعاً لكني أحتاج إلى تاكسي وسأدفع لك ثمن أغلى وجبة عندكم لو ساعدتني. قالت: كم ستدفع؟ فوجئت ببجاحتها ومع ذلك قلت لها: سأمنحك عشرة دينارات إذا أحضرت لي سيارة أجرة. بدا على ملامحها السرور وطلبت مني أن أنتظر.

 

في هذه اللحظة اقترب مني شاب كويتي كان يتناول طعامه وحده ويبدو أنه سمع المحادثة. تساءل الشاب عن الحكاية فأخبرته بالموقف العجيب الذي أواجهه. ضحك ودعاني إلى تناول الطعام وقال إنه سيوصلني. لم أكن في حالة تسمح بتلبية دعوته فشكرته وطلبت التوصيلة فقط. قام الشاب الكريم بالخروج معي وركبت سيارته وبعد أقل من دقيقة كنت أمام الفندق.

 

عندما أتذكر الآن هذا اليوم لا أشعر بالامتعاض أو الغضب إذ أنني قد كسبت صديقاً ما زال الود بيني وبينه متصلاً، وهو المكسب الذي حققته من الخروج تحت الشمس الحارقة في ذلك اليوم القائظ.