
تجربة حياة

أسامة غريب
03 أغسطس 2017لم يكن صلاح جاهين وحده الذي حلم بصناعة كبرى، ملاعب خضراء، تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا في كل قرية عربيه. أنا أيضا عشت هذه الأحلام، وسرحت مع التصورات والأخيلة التي رأيت فيها مصر مكانا جميلا يرعى العدالة والحرية والمساواة، وعششت في رأسي صورة الوطن الذي يمنح أبناءه الكرامة فيمنحونه الحب والولاء.
صحيح أن الأيام تكفلت بإجهاض كل هذه الأحلام عندما اندفع الوطن بعيدا عن سكة الجنة الخضراء ومضي عاقدا العزم على أن يكون في النهاية مكبًّا للنفايات، إلا أنني وطوال زمن تدحرج الوطن من أعلى التل ظللت مقتنعا بأن عشاق هذا الوطن بإمكانهم إبطاء التدحرج ومن ثم إيقافه حتى يأتي الله بقوم خير منا في جيل اَخر ثم لا يكونوا أمثالنا!
وكنت أعتقد دائما أن التعليم هو البوابة الرئيسية لصيانة الأمن القومي بمعناه الحقيقي، وأن بإمكانه إن صح أن يهدي للوطن إنسانا عالمًا ومنتميا في اَن. لهذا فقد كنت أنفر من المدارس الأجنبية التي تدرس كل العلوم بالإنجليزية والفرنسية وتسلخ التلامذة منذ الصغر عن هويتهم وتلحقهم فكريا ووجدانيا بثقافة أوروبية تمجد الغرب وتراه النموذج والمثل، وتقلل من شأن اللغة العربية والهوية الحضارية للعرب والمسلمين. وكان ماثلا في ذهني دائما ما فعله تلامذة المدارس الأجنبية في مصر عندما قرر عبد الناصر عقب العدوان الثلاثي أن يضع المدارس الفرنسية والإنجليزية تحت إشراف الدولة، فقام التلامذة وأهاليهم والمدرسون بالتهديد بالاعتصام وأمطروا رئاسة الجمهورية برسائل الرفض والاعتراض (كما ورد في كتاب مصر ولع فرنسي) تأليف روبير سوليه، وبما يعني أن حبهم وولاءهم لأوطان أصحاب المدارس أكبر بكثير مما يحملوه لمصر.
وكانت كتابات ومواقف رجال كبار أمثال الدكتور حامد عمار والأستاذ فهمي هويدي تمنحني الثقة في صحة ما أعتقد، إذ ما فتئوا يدقون أجراس الخطر محذرين ومنذرين من أن انتشار مدارس اللغات التي تدرس للأطفال المواد التعليمية باللغات الاجنبية منذ الحضانة يشكل خطرا على الهوية، خاصة بعد أن ازدهر بيزنس التعليم واتجه كثير من أصحاب رأس المال لإنشاء مدارس للغات ثم قاموا باستقدام خواجات من الخارج للتدريس معظمهم لم يُدرّس في بلده أبدا. المهم أنه خواجا ويعرف القراءة والكتابة حتى لو كان في بلده يعمل إسكافيًا!
ولإثبات أنني لست ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وللتدليل على أن الايمان بهذه الأفكار ليس موقفا حنجوريا للتصدير الخارجي في الجلسات مع الأصدقاء أو على صفحات الصحف فقط، فقد فاجأت الأهل والأصدقاء عندما قمت بإلحاق أولادي بمدارس عربي تدرس كل العلوم باللغة العربية ما عدا مادة اللغة الإنجليزية، فاتهموني بالسفه والجنون واعتبروني خطرا على أولادي، لأن الحياة لم تعد تحتمل مثل هذا الهراء المسمى بالهوية أو الانتماء، وأن سوق العمل لم يعد يعترف إلا بخريجي مدارس اللغات، وحاولوا إقناعي بأن أبنائي أنفسهم لن يسامحوني عندما يكبروا على ما فعلته بهم خاصة وأنا لا أشكو العوَز أو العجز المادي. قلت لهم: انا تخرجت من مدارس عربي ولم يمنعني هذا من تعلم الإنجليزية والفرنسية أفضل من كل خريجي مدارس اللغات، وأنا أريد لأبنائي أن يتعلموا لغات أجنبية لا أن يتعلموا باللغات الأجنبية والفرق كبير. واجهوني بأنني فعلت هذا في غفلة من الزمن، وأن الزمن لم يعد غافلًا الاَن! كانت المعارضة حادة وجارفة حتى أنني بدأت أتساءل بيني وبين نفسي عن صحة ما أعتقده.
ثم تمضي الأيام لتكشف لي أن أولادي يذهبون إلى المدرسة ويعودون دون أن يتعلموا شيئا، وأن مستواهم في اللغة العربية متواضع للغاية رغم أنهم يدرسون كل المواد بها، وأنهم لا يفقهون شيئا في اللغة الإنجليزية رغم أنهم يدرسونها، وبدأت أعي أن المشكلة ليست في تعليم عربي أو تعليم أفرنجي. المشكلة أن الدولة غير موجودة، وأن مسألة المفاضلة بين تعليم وتعليم أو بين أسلوب وأسلوب يمكن أن تنشأ فقط عندما تكون هناك دولة وهناك مسؤولون وهناك مدرس مؤهل لديه ما يقدمه للتلاميذ، أما عندما يكون مدرس اللغة العربية ضعيفا في اللغة العربية، فما الفائدة من الذهاب للمدرسة غير تنشيط الجهل والعودة به للبيت؟!
وقد حمدت الله كثيرا أنْ أنقذ أولادي من جنون أبيهم الحالم عندما انتقلنا للحياة في كندا، وعشنا هناك لمدة خمس سنوات كانت كفيلة بفتح صفحة جديدة ونظيفة مع الحياة ومع التعليم، فتعلموا اللغة الإنجليزية وأتقنوها، وعندما رجعنا إلى مصر ألحقتهم بالمدارس الإنجليزية التي على الرغم من كل مساوئها المستمدة من كونها تعمل في مصر إلا أنها تمنحهم شهادات يعترف بها العالم. أما مسـألة الهوية والانتماء فمن الواضح أنني فكرت فيهما وفي ذهني أساتذتي الذين علموني زمان، ولم أنتبه إلى أنهم قد ماتوا وشبعوا موتًا، وأن مدرسي هذه الأيام هم النسخة المدرسية من سعد الصغير وبعرور وشعبان عبد الرحيم، ولم أنتبه كذلك إلى أن النموذج الذي حلمت به يقتضي شروطا موضوعية غير جاهزة، وأنني سأكون ضحية مؤكدة في حالة إصراري على أن أكون أبا محترما لأبناء وطنيين في وطن ضائع أو في شبه دولة، وليسامحني الدكتور حامد عمار وكل المفكرين الوطنيين الذين منهم تعلمت حب الوطن وتعلمت لبس الطربوش بعد أن تم إلغاؤه!