
كيف زادني «التطبيق الذكي» غباءً؟

أحمد متاريك
02 أغسطس 2017"عذرًا، لقد توقف حسابك، ولن تتمكن من الدخول".
صدمة استقبلني بها موقع "فيسبوك" منذ أيام، بقرارٍ مباغت أُغلق حسابي على إثره بلا سبب، بعدما قضيت دهرًا في تربيته وتسمينه كحيوان أليف يجري عليك ما أن تضع مفاتيح العمل فوق طاولة المنزل. حشد من آلاف الأصدقاء الذين لا أعرف معظمهم، ولا أتذكر كثيرًا من هم، حتى ونحن نتبادل "الشات"، أو أتلقى منهم التهاني على أكثر مناسبات حياتي قدسية؛ عيد ميلادي وزواجي وحتى ثورات شعبنا المباركة التي لا تنتهي.
ضربة لا أُنكر أنها باغتتني بشدة في البداية، وذاكرتي الصدئة تحاول أن توضِّح لي كيف كانت حياتي دون أن تخيّم عليها السحابة الزرقاء المسؤولة عن إيصال جُل رسائلي بالعالم؛ به أطمئن على زوجتي وأهلي وأصدقائي، وأتواصل مع زملائي في المهنة، بل وأنفذ بعض الأركان الأساسية اليومية لضمان سير العمل بانتظام، فهل أنا بدونه في مصيبة؟ يبدو ذلك.
اليوم الأول "بلا فيس" كان كارثيًا، شلل تام في أغلب تفاصيل يومي التي تعتمد في أغلبها على جملة "بعتهالك ع الفيس"، فماذا نحن فاعلون؟ "ولا حاجة".
بعيدًا عن آلام الرقبة والظهر والتهابات العينين ومآسي الأذنين، وتلاشي الذاكرة والرغبة المستمرة في الانزواء عن العالم، علاوة على ضياع رقعة كبيرة من وقت اليوم في "اللاشيء"؛ احتجت إلى يومٍ ونصف من "الحجب" كي أصل لحجم الدمار الذي يحدثه هذا التطبيق اللعين بعالمي.
ساعات طوال تضيع عليّ لا أطوّر فيها نفسي؛ فلا أتعلم لغة جديدة، ولا حتى أرفّه عنّي بما يكفي لإعادة إنعاشي من جديد. فقط أهدر الدقائق وأنا بـ"سكرول" الصفحة الرئيسية عندي، وأنا أتابع تنظيرات أناس مجهولين، يعرضون لي آخر أخبارهم وأحدث "إفيهاتهم"، والأهم.. تحليلاتهم المستمرة لكل شيء وأي شيء، فلا يجب أن تَفوت مناسبة كونية إلا ويكون لهم فيها رأي وموعظة حسنة لآلاف "الفولورز" الذين يتشربون هذا "الهَبَل" بشكل مغناطيسي، ساهَم في تشكيل مصطلح ضبابي هو "الرأي العام الافتراضي"، فبات المصدر شبه الأول لمعظم معلومات عقولنا هو جملة "ِشفتها على الفيس"، والغريب أن أغلبها قديم ومكرر ومريب، نفس الصورة الدامية تعرضها صفحات على أنها هجوم في ليبيا وأخرى على أنها تفجير انتحاري بالعراق، والناس يصدقون في جميع الأحوال، ويبكون ويدعون للشهداء بالرحمة.. "ناس طيبين قوي يا خال".
تقول أكثر الإحصائيات العالمية تفاؤلاً إن المرء ينفق بين 3 إلى 5 ساعات يوميًا في الدردشة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأن في بعض عينات المراهقين يتضاعف الرقم أو حتى يزيد عن ذلك! ولك أن تتخيل حياة شاب نصف يومه يضيع بين "الواتس" و"الفيس" وإخوتهم الكرام، والتي لن تزيد جدواها عادة، إن أحسنَّا الظن، عن "رغي" مستمر في "الولاحاجة" لو قضى نصفه في تعليم الإنجليزية لأتقنها في 6 شهور!
أما عن رقمي الخاص في الوقت المهدر، فكان ساعتين في اليوم، تنقص قليلاً أو تزيد كثيرًا، بشكل أفسح لي المجال باليوم الثاني لمشاهدة فيلمين جيدين للمرة الأولى من سنوات، وفي اليوم التالي للعودة إلى قراءة الروايات بعد توقفٍ طال سنين، بالإضافة لإنجاز أعمال صغيرة مهمة أجلتها مرارًا وتكرارًا كي لا تفوتني آخر "كوميكسات" تريقة الأهلاوية على الزملكاوية!
الجريمة الكبرى التي ترتكبها مواقع التواصل بحقنا هو "تسطيح الأوقات"، فتستوي زيارة الجدة، والعناية بالمريض، واجتماع العائلة، وانتظار الحبيبة خلف عامود الناصية، طالما قضيتها جميعًا بوجهٍ منكفئ على شاشة لا تكتفي فقط بإبعادي عن الواقع، ولكن تسرقه منّي.
لا أعلم كثيرًا عن هندسة بناء قواعد المجد، ولا عن هويات من قاموا بها أو يقوموا بها، ولكني على الأقل متأكد، أن من فعلها حقها كان "عامل ديأكتيفيت" حينها.