عن ذاك الذي لا يطالع الدنيا إلا من فوق كتفي

عن ذاك الذي لا يطالع الدنيا إلا من فوق كتفي

أحمد متاريك

أحمد متاريك

11 ديسمبر 2017

 

أي بني؛ بداية أعتذر عن تأخري في الكتابة إليك من آخر مرة احتفلت فيها بقدومك. ماذا عن الانقطاع عن الكتابة أصلاً؟ هذا يتطلب اعتذارًا ثانيًا، على كل حال، لو طلبت منّي أسفًا على كل الأشياء التي تقاعست عن فِعلها، لقضيت عمري على ركبتي أتضرع، ولانتهى المقال وما انتهَتْ.

 

شهرك الأول يقترب من الإتمام، لم تعد طفلاً غِرًا وُلد أمس يا علي، ثلاثون قمرًا داروا فوق رأسك الصلعاء يحاولون سرقة الأنظار منك ولم يفلحوا. يقول جدك إن "يوم حياة" واحد يساوي خبرة عامًا كاملاً، فهل تمتلك الآن 30 عامًا من الخبرة؟ أشك، وإلا لانمحت نظرة الاندهاش التي لا تفارق عينيك وأنت تطالع كل شيء.

 

قديمًا، كتبت في ذات المكان أن عملي سيدمر حياتي، لا لأنّي أكرهه ولكن لأني أحبه أكثر من اللازم. عندما تكبر لا تكرر فِعلتي أبدًا وتحرم روحك من يوم يمرُّ على"قطعتك الحمراء" وهي تستوي وتنمو وتصبح "بوفتيك" فاخرة فتنة للناظرين. مرت عليّ أيام لم يشغلني بها إلا مصطلحات من عينة "السَبْق"، و"الريادة"، و"حُسن دوران العمل"، في إطار سعيي الضبابي نحو جَنْي ذهب مجد صاحبة الجلالة، وهو داء أحسب أنني برأتُ منه كثيرًا الآن بفضلك، فلك الشكر أولاً وأخيرًا، فما جدوى إنجازات الأرض إذا لم أكن موجودًا أتابع بسمتك الأولى؟

 

قديمًا كنت أملك ما يكفي من الغرور كي أتمرد على كل شيء، وأغادر أهلي وقريتي فقط للبحث عن فرصة عمل لائقة بي، والتي ما أن اندمجت بها شغلتني تفاصيله عن كل شيء؛ كيف أحسّن؟ أطوّره؟ أجعله راضيًا لغروري الذي لم يطل عنانه إلا نسور تقضم السحاب، حتى صرت أنا والمكان وكأننا قطعة واحدة لا تدري أيهما جاء قبل الآخر، حتى جئتَ.

 

حذرت والدتك قبل مجيئك من أن تصير أمًّا كلاسيكية؛ لا يضايقها إلا ارتفاع حرارتك وضيق عينيك، تغيير البامبرز وتزويدك بالأدوية في مواعيدها، وتفني شبابها في طفولتك فتذوب بالكاد في ماء براءة لا يلبث أن يزول بالكبر عتيًا، خمّن ماذا حدث عندما أتيت؟ أصبحتُ أنا أبًا كلاسيكيًا، تقريبًا لا أغادر المنزل.. بل حجرتك.

 

أطالع وجهك بالساعات؛ هل ما أراه ابتسامتك الأولى أم مجرد اختلاجة عابرة من شفتيك الناتئتين بأمري في الدنيا، أحفظ أدويتك عن ظهر قلب، وأنا من ينسى المعلومة مالم يكررها 10 مرات في اليوم، نقشت تاريخ ميلادك في صدري فلن أنساه أبدًا، تنقضي إجازتي وأنا في رحابك تقريبًا لا أفعل شيئًا إلا التطلع إليك.

 

ذاب ملح الأشياء وظلت قطعة سكرك عصية على الاندماج في الماء، وإن لم تكف عن تحليتها فصارت شفاء للشاربين، بالكاد أخوض مع أمك حديثًا يبتعد عنك؛ ماذا أكل؟ ماذا شرب؟ هل نغير له نوع بودرة "التلك"؟ ما أنسب نوع حفاضات يلائم بشرته؟ هل يستدعي المغص الدائم الضارب بجذوره في أمعائك القيام بزيارة جديدة للطبيب؟ أملأ صورك في الموبايل كي لا تفارقني أينما ذهبت، وأحدث الجميع عنك حتى لو كنّا جماعة صفّها القَدْر في ميكروباص واحد لساعة واحدة، امتلأت نتائج محركات بحثي بـ"كيف تقضي على زغطة طفلك؟"، و"الجديد في دنيا البامبرز"، والطريق القويم للتكريع السليم.

 

الأخير بالذات فن لا يتقنه إلا الحاذقون، فوقتها عليك أن تضم طفلك إلى صدرك بطريقة هندسية تكفل له استقامة تضمن انسياب اللبن إلى معدته، مع ميل خفيف لا يتعب ظهره، بالإضافة لفرد كتفيك أقصى ما يمكنك كي توفر لخدِّه وسادة عريضة ينام عليها إن "هفّه الشوق"، وطبعًا ستكون أعظم ثمار نجاحك هو "قَشْطة" لزجة كاللبن الرائب زادت عن حاجة جسمه فأودعها معك أمانة لا تُرد، وبفضل الله وبفضلك نجحتَ في نيل بركاتك وأغرقت مَلَكي اليمين والشمال بزوائدك، وجعلت رائحتي كـ"مستودع زبادي".

 

قد يحسب البعض أنك حتى الآن لا ترى العالم إلا من فوق كتفي، تُطلُّ برأسك الدقيق وتوزع نظراتك المندهشة على كل شيء، كفاك الصغيران منغرسان في قميصي وكأنك تتشبث برمل صحراء، تتابع تفاصيل الكون بأسره مطمئنًا متدثرًا بطبطبة كفّي على ظهرك، لا يعلمون أن العكس استوطن بيننا من أن منحتني نظرتك الأولى، وليكن هذا هو سرنا الصغير، فأنا لا أكاد أرى من العالم سواك؛ ظلمة باهتة عتمت عدسة عيني إلا عن ذاك الرضيع الذي احتوته هالة نور عابثة تغازلني على استحياء، تهمس بي في لهفة "تعالَ سريعًا.. علي عاوز يتكرّع".