«العثمانيون قومٌ بلا حضارة».. ما رأي التاريخ في هذا الزعم؟

«العثمانيون قومٌ بلا حضارة».. ما رأي التاريخ في هذا الزعم؟

أحمد متاريك

أحمد متاريك

24 فبراير 2018

 

منذ أيام قررت محافظة القاهرة تغيير اسم شارع "سليم الأول" بمنطقة "الزيتون"، والذي يحمل لقب السلطان الشهير الذي قضى على دولة المماليك بمصر، وألحقها بجسد الخلافة العثمانية، واستندت القاهرة في قرارها إلى دراسة تاريخية أكدت أن الرجل "قتل آلاف المصريين وأعدم آخر سلاطينها".

 

تزامن هذا الإجراء مع حالة التوتر العنيفة التي حدثت بين تركيا والإمارات، أواخر العام الماضي، بعدما انتقدت الأخيرة على لسان وزير خارجيتها عبد الله بن زايد آل نهيان، تصرفات جنود فخر الدين باشا الحاكم العثماني للمدينة المنورة بين عامي 1916 و1919، مؤكدًا على أنهم "سرقوا أغلب مخطوطات المكتبة المحمودية في المدينة"، كل هذا يترافق طبعًا مع اتهام يُلاحق أنقرة بكل مكان عن إبادة قوات الخلافة للأرمن قديمًا.. فهل هذا ما تبقى من ميراث العثمانيين كي يلاحق أحفادهم للأبد؟

 

حفظت لنا كُتب التاريخ نبوغ أصحاب الباب العالي في عددٍ من المجالات، بداية من اكتشاف الأمريكتين والميكروبات وحتى علاج المرضى النفسيين بالموسيقى وإرهاب الخصوم بها، وكل هذا بسبب نهضة علمية شاملة عاشتها دولة الخلافة على مدار عشرات السنين، بدأ من المدرسة ووصل إلى القمر!

 

حظي مفهوم "المدرسة" بعناية مبكرة في العقلية العثمانية، يكفينا معرفة أن مؤسس الدولة الحقيقي أورخان بن عثمان، في عِز خوضه حرب ضروس لتحويل "فتوحات" أبيه إلى دولة حقيقية، لم يغفل بعد فتحه لمدينة "نيقية" البيزنطية (1331م)، عن إنشاء مدرسة بجوار الجامع الكبير، ليكشف مبكرًا عن عقليته المتأثرة بالسلاجقة، واقتناعه بمدى أهمية تنشئة الرعية على نظام تعليمي وتربوي مُمَنهج.

 

بعدها كرّت المسبحة، فظهرت مدرسة أخرى في بورصة عام 1335م، تبعتها أخريات في ادرنة واوسكوب وسراى بوسنة (سراييفو)، حتى ظهرت المدارس المتخصصة في مجالات البيطرة والزراعة والهندسة وبالطبع العلوم الشرعية التي استأثرت بنصيب الأسد، حصر عددها أكمل أوغلي في كتابه "الدولة العثمانية تاريخ وحضارة" وتجاوزت الألف.

 

يوضح دكتور عماد عبد العزيز أستاذ التاريخ بجامعة الموصل، في بحثه عن "أثر المدرسة في الحياة في الدولة العثمانية"، أنها لم تكن مجرد مكان يقتصر دوره على توصيل الحقائق العلمية، بل أدت دورًا مهمًا في تأسيس بنيان الدولة الإداري، لأنها كانت "المفرخة" التي تعد القوة البشرية اللازمة للمؤسسات المتنوعة لإدارة الدولة المركزية طبقا للتقاليد العثمانية.

 

احتل التعليم أولوية قصوى في أذهان بني عثمان، وفي 1868م صدر فرمانًا بجعل المرحلة الابتدائية إلزامية من سن السابعة إلى الحادية عشرة للبنين ومن السادسة إلى العاشرة للبنات.

 

ويضيف "عبد العزيز" أن المناصب الإدارية في الدولة كانت لا تعرف إلا خريجي المدارس العثمانية، فعلى الأقل لابد أن يكون ثلاثة من أعضاء الديوان، وهو الجهاز الإداري الأعلى بالدولة، من خريجي هذه المدارس، وهم: "النشانجي" (حامل الأختام)، و"الدفتردار" (وزيرالمالية) و"قاضي العسكر" (قاضي القضاة).

 

ومن مستصغر "شَرر المدرسة" نبتت نار "نهضة علمية" كانت عماد الدولة لأكثر من 6 قرون، سنحاول أن نستعرض بعض معالهما في السطور التالية..

 

الطب

خلقت حالة الحرب الدائمة التي عاشتها الدولة اهتمامًا بطُرُق علاج جرحى المعارك، فتتالت الأوامر العُليا بإنشاء "دور الشفاء"، حتى تحول الأمر إلى السعي لتوفير عناية صحية شاملة للرعية، وليس فقط للجنود، فأُقيمت البيمارستانات (المستشفيات) العامة، التي قدمت خدماتها للجميع، كما ظهر أطباء عظام على قدرٍ عالٍ من الحنكة صنّفوا كُتبًا دُرِّست بالجامعات الأوروبية لفترة طويلة.

 

تقول الباحثة جازية شتوان في أطروحتها لنيل الماجستير من جامعة "يحي فارس" الجزائرية، إن العثمانيين برعوا في مداواة أمراض العيون والطاعون، بالإضافة لعِلَل نفسية كـ"الشيزورفرينيا" و"الماليخوليا" و"الهستيريا" وإن الاهتمام العثماني لم ينحصر في كثرة إنشاء مستشفيات بالمدن الكبرى، بل شمل التعليم الطبي من خلال إقامة عدة مدارس طبية لتدريس فنون الشفاء، مثل "مدرسة الأطبا" التي بناها بايزيد الثاني وكان طلبتها يدرسون كُتب ابن سينا والرازي، و"الطب السليمانية" التي بناها سليمان القانوني 1555م لتدريس علوم الجراحة والتشريح، ولا تزال تمارس مهامها حتى الآن وغيرها من المؤسسات التي اتسعت طرديًا حتى لجأت بعضها للتخصص، فأنشأ "الفاتح" في عام 1451م مستشفى مخصصًا لعلاج مرضى الجذام من النساء، وبـ1470م أنشأ  بيمارستانًا من 70 غرفة لعالج المرضى النفسيين بالموسيقى (اعتُمد بأمريكا عام 1956)، وبهذا يكون العثمانيون قد نجحوا في استخدام سحر النغمات بالنقيضين، فالتاريخ يؤكد لنا أيضًا أنهم أصحاب أول فرقة حربية موسيقية بالعالم، وكانت ترافق الجيش في فتوحاته وتعزف له ألحانًا مختلفة وفقًا لوضعية القتال، كالهجوم والاستعداد والانسحاب وغيرها.

 

لم يكتفِ الأطباء العثمانيون بنقل علوم الطب من جيرانهم، وإنما بدأوا في إضافة المزيد لمكتبته، وتعددت صنوفهم بهذا الشأن، من أبرزها: كتاب "جراحيه إيخانية" للجراح أماسيالي شرف الدين، و"الذخيرة المرادية" الذي خُصص لعلاج الأمراض النفسية والعصبية، و"مادية الحياة" للشيخ الطبيب آق شمس الدين معلم السلطان محمد الفاتح، الذي كشف فيه عن "وجود البكتريا" ووصفها بأنها "بذور حية"، فقال: "الأمراض تنتقل إلى الآخر بطريقة العدوى، وهذه العدوى صغيرة ودقيقة إلى درجة عدم القدرة على رؤيتها بالعين". ليسبق بذلك البيولوجي "باستور" بـ 4 قرون، باختلاف طفيف وهو أن الأول لم يكن يملك تليسكوبًا وقتها.

 

الجغرافيا البحرية

فطن العثمانيون مبكرًا لأهمية وجود أسطول بحري قوي، وسريعًا حذق الصنّاع كيفية بناء السفن الحربية وظهرت إلى الوجود ترسانات عملاقة مثل تلك المقامة بـ"غليبولي" أنتجت عشرات القطع، حتى بلغ قوام الأسطول ذروته في عهد السلطان بيازيد نجل محمد الفاتح، الذي امتلك 3 آلاف سفينة، جابت البحر المتوسط شرقًا وغربًا حتى قهرت أساطيل البندقية وضمت الجُزر الواحدة تلو الآخرى إلى سلطان الخلافة، ولعبت البحرية العثمانية دورًا في "الجهاد " الذي أعلنته الدولة على الإسبان بعد المسلمين من الأندلس (الموريكسيين)، واستطاعت أن تبلغ المحيط الأطلسي وبحر الهند، وأن ترسم خرائط لهذه السواحل، وأنقذت حياة أكثر من 70 ألف موريسكي نقلتهم من الأندلس إلى الجزائر والمغرب.

 

وفي عهد سليمان القانوني تحول البحر المتوسط لبحيرة عثمانية تمخر بها سفنه بلا مقاومة، وذلك بمساعدة معرفتهم المتطولة للجغرافيا البحرية، بفضل مؤلفات بحارة عثمانيين كبار مثل كمال ريس، والإخوة بربروس، وبيري ريس، الذي خلّد حياته بخريطتين للعالم لا تزالان تُدرّسان حتى الآن.

 

الأخير كتبت عن حياته دكتورة رابحة خضر أستاذة الآداب بجامعة الموصل، أطروحة أكدت فيها أنه ألّف كتاب "بحرية" الذي حوى أدق المعلومات عن البحار في ذلك الزمن، تحدث فيه عن قارة غير مكتشفة أطلق عليها "أنتيليا" وهو مصطلح يُطلق عادة على الوحدة الإدارية التابعة للدولة العثمانية!

 

وتضمن الكتاب خريطتين "أعجوبيتين" الأولى رسمها ملونة عام 1513م وأوضح فيها حدود إسبانيا وتفاصيل أفريقيا متضمنة أنهار وجبال لم تكن معروفة حينها، والمحيط الأطلسي بما فيه من جزر الكناري وسواحل الأمريكتين، بسواحلها وحتى سكانها الذي رسمهم وهم يرعون الغنم، علاوة على ملامح القارة القطبية الجنوبية وجبالها ووديانها المجمدة، قدمها للسلطان سليم الأول خلال وجوده بمصر عام 1517م، وعُثر عليها في قصر "توبكابي" 1929، وخضعت لدراسات مستفيضة لم تحل لغزها حتى الآن، بلغت من دقتها أن وصفها الكاتب المثير للجدل إريك فان في كتابه "عربات الآلهة" بأنها من صُنع "أشخاص من العالم الخارجي".

 

الفلك

نشأت الحاجة الماسة إليه لتحديد مواقيت الصلاة وجهة القبلة في المواقع المختلفة، ولضبط سير السفن في أعالي البحار. استحدثت الدولة هيئة رسمية أطلقت على كبيرها "رئيس المنجمين"، وهو منصب استمر وجوده داخل أجهزة الدولة حتى نهايتها.

 

ومن الأسماء التي برعت في هذا المجال، علي القوشجي، الذي رسم القمر لأول مرة في التاريخ، وقاس خطوط والعرض لإسطنبول، وحدّد مساحة الصين، واخترع الساعات الشمسية، ووضع كتابًا هامًا في الفلك سُمي بـ"الفتحية".

 

بالإضافة إلى العالم تقي الدين معروف، صاحب العديد من المؤلفات بهذا المجال، والذي كان سببًا في إنشاء مرصد استنبول عام 1575، فكان أول هيئة تنبؤ بالزلازل في تاريخ الدولة، لكن بعدها ببضعة أعوام فشل الجيش العثماني في حصار فيينا وانتشر وباء الطاعون بأرجاء البلاد، فاستطاع أعداء "تقي" أن يقنعوا السلطان بضرورة هدم مرصده لأنه جلب النحس للدولة، وهو ما تم في 1580.

 

المصادر

  1. - أثر المدرسة في الحياة العدلية والإدارية في الدولة العثمانية.
  2. - الأوقاف على التعليم في الخلافة العثمانية.
  3. - الدولة العثمانية تاريخ وحضارة (جزئين).
  4. - العثمانيون في التاريخ والحضارة.
  5. - العلوم العقلية في الدولة العثمانية.
  6. - من أعلام الجغرافيا البحرية العثمانية محيي الدين بيري ريس.