
حبيبي "الله".. صباح الخير

أحمد متاريك
20 أغسطس 2017تحية طيبة وبعد؛
هذه هي المرّة الثالثة التي أُناجيكَ فيها -حوارًا طويلاً مريرًا - وأول مرّة أكتب فيها إليكَ خطابًا كبيرًا، تحت تأثير ظروف عِدّة أعقدها كلاكيع الكون التي ترسَّختْ من حولي وحاوطتني كأكمنة جيش مرورية تُطلق النّار عند أول اشتباه.
المرّة الأولى كانت قبيل مباراة مصر وجنوب أفريقيا (1998) والمرّة الثانية كانت أثناء مرض عمّي؛ تمنّيتُ عليكَ في الأولى أن توفّق حُسام حسن وأن تجعله يفترس "الأولاد" بثلاثية على الأقل، والمرّة الثانية تمنّيتُ عليكَ أن ترحم عمّي من عناء مرض أصابته به الدولة المصرية العميقة مع سبق الإصرار والترصّد.
صحيح أن حسام لم يُحرز أهدافًا في المباراة النهائية ولكنّنا فُزنا وصحيح أن عمّي لم يعد يُعاني من آلام مرضه أبدًا ولكنّه مات! إلاّ أنه في جميع الأحوال يُمكن اعتبار أن ما حدث في كلا المرّتين هو استجابة نوعية محوّرة لما طلبتُه منكَ بشكلٍ أو بآخر حتّى وإن اختلفت طُرق التنفيذ واختلف رضانا عن النتيجة من عدمه.
دومًا تُحيرني قضية "الدعاء إليك" فطبقًا لما يصفه لنا رجال الدين - المتحدّثين جدلاً باسمك والمُعرّفين زورًا بظلّك الناسوتي على الأرض - يُخبرنا شيخ جامع قريتنا في لمّة السيرة (يوم الإثنين من كل أسبوع) أن الله يستجيب دومًا لعباده الصالحين ما أن يدعوه وأن عُقبة بن نافع كان صحابيًّا، جليلاً، مهيب الركن، لأنه كان مُستجاب الدعوة وأن عدوه (ابن دينار) ارتعد خوفًا لمّا بلغه أن عقبة - قاهر وحوش القيروان برفعة يد للسماء أَمَرَ خلالها حيوانات الأحراش أن تخرج فورًا كي تُفسح المكان لجنوده ليبنوا مدينة القيروان- قد دعى عليه، ويؤكد التاريخ أن فتوحات عقبة لم تتمّ إلاّ وابن دينار قبيع سجون جيش يقوده لفتح ما تبقّى من أفريقية.
حلو.. إذن العبد الصالح يدعو الله فيستجيب له.. أمر معروف ومفهوم ومنطقي.. تمام؟؟..الحقيقة لأ.. لأن نفس الشيخ -ظِل الله في الأرض- يظلُّ هو وغيره يدعون - دون مبارحة منابرهم - ليل نهار لنُصرة فلسطين والقدس والبوسنة وأهل ميانمار.. يدعون ويدعون، يرغون ويزبدون، يبكون ويهرسون كليم الجامع الخشن بالركوع فتتقرّح الجباه على شكل زبائب عريضة عامرة تُحبّها جدًّا شاشات التلفاز، ولكن لا شئ يتغير.. فقط المتغير الوحيد أننا نُحقق هزائم ساحقة بامتيازٍ تام في جميع النواحي، هزائم مُستحقّة لأننا قبلنا علينا ولاة من عينة هؤلاء.
إمّا أنّكَ لا تريد النّصر لقضيتَك وإمّا أن شيوخَك الصالحين ليسوا صالحين وهذا استنتاج خطر على عروش وكروش مددها من مدادك الذي ينفذ ماء البحر ولا ينفذ أو ...
هنا نأتي لحديث لنفس الشيخ، في نفس الجامع، في لمّة الفقه (يوم الثلاثاء من كُل إسبوع) يُخبرنا فيها أن الله لا يحبُّ سماع صوت عبده الطالح فيأمر ملائكته بالاستجابة الفورية له خلاصًا من حضوره المنفّر أمّا العبد الصالح فإن الله يُباهي ملائكته بصوت دعاؤه فيستبقيه طويلاً بلا استجابة!!
بهذا يُبرّر لنا الشيخ سبب جدب دعواته هو وآله على مدى سنوات طويلة من خُذلان القضية أو ما تبقّى منها، وبُناءً على حديث لمّتي الشيخ صارَ عليّ أن أرتاب في مدى جودة عملي وفي مدى صلاحي إن استجبتَ لدعوتي أو لم تستجب!!
والحديث عن هذه التناقضات لا تنتهي، مثلهم كمثل مَن ذكر لنا مرارًا أن أعظم تطبيق لخشوع الصلاة هي ذكرى الصحابي الذي طلب أن تُبتر قدمه أثنائها لأنه خلالها لا يشعر بأي شئ فإن قُطعت ما تألّم!! على الرغم من أن أحاديث رفق الرسول بحفيديه (الحسن والحسين) تُخبرنا أنه كان يشعر بجلوسهما فوق ظهره أثناء صلاة الجماعة فكان يؤخّر النهوض كي لا يفزعهما!! صلاة صحابي لا يشعر فيها بقدمه تُبتر وصلاة الرسول نفسه يشعر فيها باستناد أطفال ابنته عليه!! أيهما صلاته أخشع يا شيخنا الجليل؟!!
أعرف أنهم استغنوا عنكَ ببضعة كُتب عتيقة، عاشوا حياتهم في تحقيقها ثم تحقيق التحقيق ثم تحقيق التحقيق المُحقّق وهكذا، لم يعرفوكَ لا بقلوبهم ولا بعقولهم ولكن بما سطره لهم أحدهم عنكَ من ألف سنة!! فعبدوه بورقِه وسطوره وما عبدوك بكل ما يتجلاّه العقل حولنا من أبسط تراكمات الأخلاق البديهية وصنعوا من حبّاري الكُتب آلهة بلا أوثان ولكن بألقاب انحنوا تحتها وسلّموا واستسلموا ولغوا عقولهم وقلوبهم ولقّنوا وتلقّنوا فنسوك وتذكّروهم واستعانوا بهم عوضًا عنك وكبسوا فيهم الحقّ والعدل والخير وشي يا حمار.
لا أحسبُ في هديكَ أبدًا التناقض كما أحسب في شيوخ الغبرة بلاهة بطٍّ زاعق وتناحة مخّ عجل مسلوق.. أعرف أنهم قومٌ حُمق ظنّوا أنّهم طوّعوا إرداتَك وفقًا لتصرفاتهم وتماهوا معها تفسيرًا وتبريرًا وكأنهم من طين ونحن من جلّة، فصارت كوارثهم ابتلاءات وتكفير ذنوب وابتلاء بينما كوارث غيرهم غضب إلهي ودمدمة ربّانية هالكة، صار الموت منهم شهادة ومن أعدائهم هلاكًا وأخذ عزيزٍ مقتدر، هزيمتهم في معركة امتحان واختبار إيمان وصبر بينما هزيمة غيرهم في معركة فتحٌ مُبين ونصرٌ من عند الله مؤازَر بآلافٍ من الملائكة، حتّى أزمات مصر ونكساتها باتوا يُفسّرونها وفقًا لمدى رضاهم عن الوضع الداخلي من عدمه (هُزمنا في 1967 لأن عبد الناصر حارب الإخوان وفزنا في 1973 لأن السادات تصالح مهم!!).
لن أسألكَ قطعًا عن أي من هؤلاء فإن الحماقة دومًا لا تُعيي إلاّ مَن يداويها.. ولكن سؤالي المحتار دائمًا لكَ..لماذا تتركهم؟! يشوهونَك ويصرخون ويعتدون ويقتلون ويحرقون باسمَك؟! لماذا تتركهم؟!!..كما تترك لنا المرض والألم والمعاناة والموت والقهر والهزيمة والإخوان والعسكر والفلول ووحوش الأحراش.. لماذا تتركهم؟!
صحيح أن كُتب الفلسفة الإسلامية حافلة بمئات النظريات التي تُبرّر كُل هذا (القرف الدنيوي) بدعوى أن حتمية وضع الإنسان في اختبارات حياتية حافلة بالكدح كي يلاقي ربّه في النهاية أهلاً برحمته وعفوه وجنّته وعسلها وأنهارها الجارية بلا توقّف وحورها الأبكار الحِسان تقتضي كُل ذلك.. على العين والراس ولكنّي تعبتُ!!
من الإمام الذي لا يراني إلاّ صوتٌ جهوري يهتفُ له من تحت المنبر، يُحيّيه ويُمجّده في فواصل خُطبه من السياسي الذي لا يراني إلاّ رأسًا تُلتقط لها جوار نظيراتها صورة بانورامية من فوق برج عاجي تُثبت للجميع احتشاد الميادين بالرؤوس وأصحابها بناءً على دعوته من المرشّح الانتخابي الذي لا يراني إلاّ ورقة في صندوق انتخابات تصعد به إلى كرسي حُكم قطيفة مسانده أوراك فراخ.
من الأديب الذي لا يراني إلاّ رقمًا يزداد به عدد الفولورز أو في إحصائية مبيعات يتفاخر بها أمام مريديه.
من الإعلامي الذي لا يراني إلاّ صوت على الهاتف لا يتكلّم إلاّ وفقًا لإطار مرسوم يُمجّد مَن يُمجّد ويذمّ مَن يذمّ ولا يقيس وجودي إلاّ مَن خلال نسب مشاهدة كلّما علت اكتنز جيبه.
لماذا تتركهم؟!
هل يجب أن أكون عقبة بن نافع آخر كي أُخرج الوحوش من أرضي بدعوة فأبني بعدها مدينتي بهدوء وعلى نضافة؟! هل ستُخلّد قيرواني - إن بنيتها - كما خلدت قيروانه؟!!
إن افترضنا جدلاً منحي هذه المقدرة فإن أمنيتي عليكَ أن تُخلّصني من هؤلاء أجمعين وأن تُحقّق لمصر لحظة راحة واحدة بلا تشنّج ولا عنف ولا هوان ولا ابتذال ولا مزايدة ولا مكياج ولا مونتاج.
أمنيتي عليكَ أن تقضي على أشباه الشعب بمُحنه ومحنته وهياجه وهياكل بطولاته الهشّة وقادته المهشّمين.
أمنيتي عليكَ أن تمنحني لحظة سلام واحد فارقة حتّى ولو كانت أخيرة.
أمنيتي عليكَ أن تمنحني الحكمة لفهم حكمتك التي استعصت عليّ كي لا أتوه يومًا وسط علامات الاستفهام.
أمنيتي عليكَ أن تهبني طريقًا واحدًا حتّى ولو كان طويلاً غير مُعبّد، كما أرجو أن تستجيب لي (بالكامل) هذه المرّة فأنام وأصحو لأجد أن خوازيق مصر العُليا قد رحلوا أجمعين بلا استجابة (نوعية/ متحوّرة) قد يختلف أو يتفق رضاي عنها.
وما لجئنا إليَك إلاّ بعد أن أعيتنا حيلتنا واستنفذنا جميع المحاولات الممكنة وغير الممكنة. فلم نتواكل وإنّما اتّكلنا عن يقينٍ جازم بحتمية القبول.. فعقلنا وتوكّلنا وفشلنا فلجأنا ودعينا فكتبنا.. ولكم الأمر من قبل ومن بعد.