
مقال تافه لا يناقش أي شيء

أحمد متاريك
24 سبتمبر 2017
هل أصبح العار يلاحق كل صحفيي مصر أم معظمهم فقط؟
سؤال محير لم يعد يشغلني في الفترة الأخيرة إلا هو، يؤرق مضجعي ويقصف قلمي ويضرم نار غمِّي، وتحول همُّه من مجرد متابعة قضية عامة إلى وحل وظيفة حياة اخترتها دونًا على وهم تنقية النفس والسُمعة، وظن خائب بالسعي وراء تبصير الناس بكل شيء. فما قيمة ما تحاول فعله وتغييره في بلد جُن خَزَنتها بحصار كل صوت فيها مهما كان مبحوحًا، وكل معارض مهما كان مشلوحًا، وكل صحفي مهما كان مفضوحًا. حتى انتشرت النار النيرونية في الأرجاء تتلذذ بقضم كل شيء بلا حساب، بعد أن استوَت شُعلتها في يد مجنون أطاح بالجميع وهو يقهقه ضاحكًا، يحسب أنه يُحسن صُنعًا.
لا أميل عادة لسماع الأغاني الغربية، ولكن تلك الواحدة التي لا أتذكر صاحبها ولا مَتْنها، لكن عبارة واحدة منها لا تفارق رأسي "لا نريد مزيدًا من الأبطال"، كم أتمنّى لو تُعلّق تلك العبارة في كل مكان؛ على ورق العملة وقلائد النساء وتذاكر المترو ولافتات أسعار الفاكهة وحتى في تمائم رقية الأطفال، لا تحاولوا أن تخرجوا للدنيا أبطالاً.. ولكن كونوا صالحين وكفى. "السوبر هيروز" يصلحون الدنيا في السينما فقط.
صحيح أن سوبرمان ببذلته العسكرية وعضلاته المفتولة يبدو دائمًا قويًا وسيمًا وحلاًّ ناجعًا للمشاكل، ولكن للأسف فإن عينيه الليزريتين صالحتان فقط لهدم عمارة وليس لإقامتها وإعادة إعمارها بدفء أسرة انزوت في ركام النسيان، ولشطر جسر نصفين وليس لتهيئة الجو لحبيبين اختلسا من الدنيا ساعة لتبادل الورود، مالم ينتزع السجن أحدهما بأي حجة كانت. فللقضاء على أعتى العُقد السياسية لم يكن علينا البحث عن دبابة ولكن عن لافتة انتخابات، وإلا فلا تلوموا أنفسكم إن لم تملكوا بعدها حتى ثمن القماش والخشب، إن فرضنا أنكم عثرتم على حائط قَبِل أن تعلقوها عليه.
لأسباب أكثر من قدرة مداد قلمي على الكتابة، خنع الناس وتهاووا وارتضوا إغماض الأعين عن كل شيء في إطار الرغبة العارمة في أن "المركب تمشي" وكأننا كنا ركاب باخرة سابقًا ولا أدري. فالفشل في جميع الملفات مبرره الدائم والأوحد "يكفيه فخرًا أنه نجّانا من الإخوان"، والسؤال الذي دائمًا يملأ ذهني وزهدتُ عن توجيهه لأي حد، في ظل موجات الغلاء الحارقة والهوان السياسي والترهل الاقتصادي "المركب مشت ولا لسه؟!"، وإن كانت مشت فأين بحار المليارات التي روّجوا لها، وإن كانت لم تمشَ بعد فعلام كانت خناقة استئصال الجماعة أصلاً؟
مواقع تُحجب وصحفيون يُعتقلون وجرائد توقَف حتى في مهدها وتُمنع من الطباعة، برامج وقنوات تُدار قسرًا بتليفونات أمر مباشرة فتطاع، ومانشيتات تُملى على رؤساء التحرير فتخرج للسوق واحدة كأشباه صورتك إن نظرتَ في مرآتين متقابلتين. "حرية إعلام غير مسبوقة" تجتاح مصر، شعار قاله أكبر رأس في البلد، بالتأكيد عندما يسمعه زملاؤنا العاطلون على القهاوي، ستتفجر أفواههم ضحكًا، وعليك تصديقه وتكذيب عينيك يوميًا حتى لا تتهم بأنك ضد عجلة التنمية، أو الألعن والأجهز، "هل تنتقد جيش بلدك أيها الحقير.. من أنت؟!"، ربما كان حريًا بي أن أرد السؤال على عقبيه "ومن أنتم؟". هذي أرضي من آلاف الأعوام، لا أعرف لي ولا أريد غيرها، عكس قاطني الثروات بالخارج، ومالكي الأرض وإن لم يكونوا أصحابها.
أنا أقدم من أهرامات الجيزة وعيون موسى وصخور شاطئ رأس البر، أقدم حتى من العربية التي أكتب بها ومن القرآن الذي أتعبّد به ومن نسر العَلم الذي تزدان به الرايات، أقدم من زي الجنرالات ونياشينهم، ومن تجبُّر عيونهم أمام كسرة جنودهم، ومن فوهات دباباتهم التي حُشرت رأسي بها وأصفادهم التي طوقوا بها لساني وسِجادهم الأحمر الذي فردوه عنقي. أنا أول نقش على حائط بمعبد فرعوني، وأول قطرة في مجرى النيل، وأول سنبلة شقَّت هذا الطين المبارك، وأول ميم في "مصر" وآخر طاء في "دمياط"، فمن أحمق هذا الذي يزايد عليّ! من أقدم منّي هنا ليُشكك في جذوري التي لم تعرف إلا طين الوادي.
تحذيرات صامتة تأتيني من هذا وذاك بعدم الكلام، إن عرفت فالزم أو اخرس، وإن تطلّب الأمر، وزنقك الحق وطفح بنفسك فالهمس والتورية أو غنِّ به للدُش أثناء الاستحمام، فقط تأكد ألا يسمعك جيرانك الشرفاء فيبلّغون عنك.
الزمن صعب والظرف حساس، ومسيرة التقدم لا تحتمل أي كلمة، مشاريع قومية تتكاثر بلا توقف كالأرانب، وقناة سويس جديدة أكبر من "طشت" أُم وجدي غنيم، وعاصمة إدارية مزدانة ببروج مشيدة، وحاملات طائرات شاسعة كذِمّة خربة، يعطل كل هذا قول يلفظه أنا أو غيري! طيب.
كفى هجومًا يا عمّ أحمد، واتقِ شرَّ حليمٍ صَبَر عليك كثيرًا، وهذا أمر لن يدوم للأبد. هل أنا بهذه الأهمية التي تسترعي انتباه أجهزتنا الأمنية عن دورها القومي في مكافحة الإرهاب؟ الكارثة أن الإجابة لا، فكيف يهدم تافه ذو قلم منحول مِثلي مسيرة وطن يزعمون أنه على الطريق الصحيح. وأي ضابط أمن هذا الذي يسترعي انتباهه صحفي مغمور يكتب في موقع محجوب لبضع مئات من أناس نصفهم أصدقاؤه وأقاربه. هل بلغ بنا الفُجر أم "الفضى" عتيًّا؟!
خائف؟ طبعًا، أتتذكر مقولة عمرو واكد عن صديقه أحمد السقا "إبراهيم مبيخافش إلا من الغشيم"؟ ربما علينا ترديدها كثيرًا هذه الأيام، أو وضعها على تمائم جوار أختها التي بدأت بها كلامي، فالعدو العاقل مأمون الجانب، قد تقنعه أو تحاوره، قد تُفهِمه بمنطقك ما كان خافيًا عليه أو حتى عليك، أما "الغشيم" فهو يحجب المواقع "على طول"، لا يناقش ولا يستفسر ولا حتى يهدد.
لذا قررتُ هذه المرة أن أكتب لكم مقالاً تافهًا لا يناقش أي شيء خوفًا على أمني الشخصي، وكي يرضى عنّي السادة "اللي فوق" و"اللي تحت" فلي وليد في بطن أمِّه أتمنى أن أراه وأنا بكامل أعضائي وعقلي، فلن أتحدث عن وكسة سياسية ولا عن ارتفاع سعر الأنبوبة الذي كسر الـ40جنيهًا ولا عن تفاخُر أمين شرطة قريتنا لي بأن قبو القِسم يحوي أناسًا محبوسين بلا تهمة لا تعرف لهم أمهاتهم "طريق جُرة"، لن أذكر شيئًا من هذا كي لا يغضب أحد، وأوضَع في الدائرة الحمراء التي تثير غضب البشوات.
ليس هذا فقط حرصًا على أمني الشخصي وخوفًا من السجن والتنكيل، وإنما لأن دائرة القمع شملت وتشمل حتى أقرب المقربين، وأنا لا أسمح أبدًا أن أوضَع في كفّة واحدة يومًا مع عبدالرحيم علي، عندها ستكون بحق الإهانة الكبيرة التي لا أقبلها أو أسامح فيها.