أن تكون كاتبًا في مصر

أن تكون كاتبًا في مصر

أحمد متاريك

أحمد متاريك

30 سبتمبر 2017

 

ما هي أفضل أمنية يمكن أن يسعى لها امرؤ يعشق الكتابة؟ أن يمارسها بانتظام؟ ألاَّ يمنعه عائق عنها.. أم أن يعمل بها من الأساس؟ ألاَّ يشغله ترتيبات وظيفة وروتين مكتب وأثقال حياة عن متعة الاتكاء على مقعد وتفريغ هموم النفس وشواغلها بالورقة والقلم.

 

ما معنى أن تعمل كاتبًا في بلد لا يسعد بالكلمات قدر احتفائه باللكمات؟

 

حاليًا، إن كنتَ من تعيسي الحظ، الذين ألقوا بفوطة مِهَن الحياة مبكرًا، ولسبب ما، غالبًا التهور وقلة الخبرة، قررت تسخير ما بقي بحياتك خدمةً للقلم وآله، ربما جديرٌ بك في أوضاع كالتي نعيشها، أن تراجعك نفسك مرة أو مرتين.. أو ثلاث. وبديهيًا أقولها جلية لكل من لا يزال في منطقة التردد؛ محتار أن ينضم إلى رحابنا أم يبقى في حيزه الضيق، أقول له "لا تفعلها.. أرجوك".

 

إن كنتَ من قاطني مدرجات الدرجة الأولى يمين، فأنت من مؤيدي السُلطة الشرفاء جدًا، ستنصاع لك أبواب الجرائد الحكومية أو شبه الحكومية، حيث تتاح لكَ مساحات شاسعة للكتابة لم تتح لأمك وهي تثرثر فوق مسطبة بيتكم.

 

تُفتح لك الأبواب المغلقة، حيث تتلاشى الحواجز بين الدولة ونظامها الحاكم، وتذاب صلاحيات كل الأجهزة لصالح سيادة الرائد الذي تسير بتليفوناته، فتتصدَّر ببركته الشاشات والاجتماعات وتصبح واجهة لك في أكبر مؤسسات البلد الإعلامية، تطالب الشعب بالصبر وتشيد بخطى برامج الإصلاح وتؤكد أن كل إجراءات جلد المواطن تصب في مصلحته. هذه المؤسسات مجرد هياكل فارغية من أرباع الموهوبين، نادرًا ما يتابعها أحد أو تترك أثرًا في الرأي العام، ستنحدر بكَ حتمًا بقلة حرفيتها، لتتقزم مهاراتك الكتابية شيئًا فشيئًا حتى تسوء حالتك بشدة وتتحول إلى العميد محمد سمير! بمقالاته التي لم تخرج من عباءة البيانات العنترية؛ سخيفة، إنشائية، ركيكة، لا يقرأها أحد طبعًا، ولكنك ستتقاضى حتمًا أجرًا كبيرًا يكفل لك تجاوز كل هذا، كما أنك ستصبح من عِلية القوم الذين لا يكفّون عن التغنّي بمشاكل الفقراء، شرط ألا يكونوا منهم.

 

أما إذا كنت أحد الذين لم يُعجبهم المشهد السياسي أو هم الذين لم يعجبوه، فتسللوا إلى مدرجات الأولى شمال متوطنًا مقاعد المعارضة، فما عليك إلا تمسخ قلمك قليلًا وتحني رأسك كثيرًا وتتحول إلى أراجوز لو سألوه كيف حال جيوبك الأنفية، لأجاب "يسقط السيسي، الانقلابي اللعين". سبِّ كل صاحب منصب في مصر ليلاً ونهارًا، بمناسبة أو بدون، هاجِم الجيش على طول الخط وشبِّه ضباطه بالنساء، افرح في لحظات استشهاد العساكر بأي عملية إرهابية، رصِّع مقالاتك بالحديث عن الانقلاب والديكتاتورية وتزوير إرادة الشعوب، وطبعًا لن تفتح فمك بكلمة بأيٍّ من تجاوزات هذه الملفات في البلد التي جعلت من ثريد "فتَّتها" دواة لحبرك. ستكون المؤسسة التي تحتضك خليجية أو أوروبية ترتدي العقال وتتحرك على هَدْيه، قدرٌ أكبر من الحرفية "الشكلية" تمنحك صيتًا مجوفًا لما تكتبه من كلام فارغ، ولتصرخ عن أساسيات الأخلاق وقواعد الإنسانية التي لا يحترمها أحد، وكالمعتاد ستكون آذان المسؤولين الكبار صماء عنك، كارق في عجلة السياسة التي لطالما دارات بـ"براجماتيتها"؛ تحتاجك لكنها لا تريدك. لن تجرؤ قدماك على لمس أرض مصر بعدها إلا لو انقلبت على عقبيك كما فعل طارق عبد الجابر، ستفتقد المحروسة بالتأكيد، ولكن 500 دولار في المقالة قادرة على إطفاء نوازع الخوف لديك بكل تأكيد.

 

أما إذا كنت من أهل الدرجة الثالثة، ضد السلطة ولا تتمنى عودة الإخوان، ترفض أتباع الجماعة ولا تتمنى سجنهم ظلمًا، تعارض السيسي لأنه يتعثر طوال الطريق لا لأنه سرَق التفاحة من يدك ولا لأن أمه يهودية، ويمنعك ضميرك أن تعتبر جارك أو ابن أخيك عضو الإخوان إرهابيًا لمجرد أنه أيَّدها في مظاهرة، كما أنك لن تفرح أبدًا إن مات ابن عمك المجند في تفجير خسيس، لمجرد أن ضابطه المتسلط فرَدَ عضلاته عليك في كمين مروري.

 

غالبًا ما سيتوقف تصنيفك وفقًا لمزاج متابعك، وليس غريبًا أن تُعتبر مؤيدًا ومعارضًا على ذات المقال. أنت في مأزق حقيقي، فليس معك السلطة ونفوذها ولا المعارضة وسحرها، لا تؤيدك الدولة بثقلها ولا الإخوان بتنظيمها، لم تنل شيئًا من جنيهات الداخل ولا من دولارات الخارج، وفي النهاية تنهال عليك الشتائم من كلا الطرفين بتهمة خيانة الوطن والقضية والمهلبية!

 

عدد مناصريك أقل حتمًا، فلا شيء يثير شغف الجمهور إلا قطبي مصارعة يتقاتلان، أما الحَكَم فنادرًا ما يتابعه أحد. وفي أغلب الأحوال فإنك ستكون مفلسًا دائمًا، عاجز عن نشر مقالاتك في معظم الأحيان، وفي النهاية إن قادَك الحظ النادر لتعثر على جهة تقبل نشر مقالتك فسيحجبونها فورًا، كما فعلوا في هذا المقال وصاحبه!