«بلاش تبوسني».. فلتسقط السينما النظيفة

«بلاش تبوسني».. فلتسقط السينما النظيفة

أحمد متاريك

أحمد متاريك

13 مارس 2018

 

ممثلة إغراء يصيبها سهم التدين فجأة، ما يجعلها ترفُض أن يتم تقبيلها في أحد مشاهد فيلمها أمام الكاميرات، الأمر الذي يُهدد بإفساد العمل برمته، هل تصلح هذه الفِكرة الضئيلة لبناء عمل فني جيد؟ بالطبع لا، ولكن المخرج أحمد عامر جعلها تصلح.

 

المستهلكة فنيًا ياسمين رئيس بطلة للعمل يجاورها في المنصة ممثل نصف مغمور أكاد أعرف وجهه بصعوبة، سوسن بدر وسلوى محمد علي تأخذان مساحات كوميدية لأول مرة، وفريق عمل جُله من أصحاب الظهور الأول، محمد خان وخيري بشارة يتخليان عن الوقوف خلف الكاميرا وينتقلان للجهة الأخرى. هل تصلح هذه الخلطة "المِلَعبكة" لبناء فيلم؟ بالطبع لا، ولكن المخرج أحمد عامر جعلها تصلح، ليقدم لنا ساعة من الفن لخّصت حياة جيل بأسره كاد أن يدهسه قطر التدين المستورد.

 

إن كنت مواليد الثمانينيات وأوائل التسعينيات ستفهم كلامي جيدًا، أم إذا كنت من أحد الأجيال اللاحقة فستحتاج لأحد منّا ليحكي لكَ عن حقبة العشر سنوات التي سبقت ثورة يناير مباشرة، حيث دولة مبارك العجوز التي سقطت أسنانها فلم تعد قادرة على العض فنهشها الجميع، كُلٌّ قَدْر جاهزيته، ولم تكن هناك قوى أكثر استعدادًا من التيارات الإسلامية على خلاف تنوعها التي زحفت بشتى صورها ودخلت كل البيوت، تاركة أثرًا لا يُمحى في حياة كلٍّ منّا.

 

وقفات الإخوان الاحتجاجية، دروس الشيوخ السلفيين في المساجد، حجاب عمرو خالد، صنّاع الحياة، ندوة مصطفى حسني، حملات إغاثة القرى الفقيرة، تنظيف مساجد الجامعات، مساعدة الطلبة المحتاجين، وأخيرًا الاعتزال المتتالي للفنانات بسبب شريط لهذا أو محاضرة لذاك.

 

هل سمعتَ عن كل هذا؟ إذًا فقد عرفت قصة الفيلم دون أن تراه.

 

تدين مصطنع شكلي غرقنا فيه أو كدنا، الشاب المتحمس الذي يواظب على حضور دروس المساجد السلفية، ويطلق لحية نابتة، يضرب أخته على الباب إذا ما ضاق سروالها، ولا يحلم إلا برفع علم فلسطين فوق القبة الخضراء للأقصى، يعتبر مصر "بلد ظُلم" وأن الحُلم الإسلامي قادم لا محالة.

 

هكذا كنّا، على صورة أكثر تشددًا أو تساهلاً، لكن المعظم كانوا كذلك، مسحورين بوعود الجنة وبخور البركة وتليين الكليم من أثر السجود، سحر زحف على الجميع حتى صاروا عاجيزن عن مقاومته، صار عمرو خالد إلهًا ومحمد حسان رمزًا يُفتح له تليفزيون الدولة، والإخوان جماعة مضطهدة من فئة البغي تستحق الدعم والتعاطف لا السجن والتراشق.

 

الحجاب يظهر على استحياء في أوساط ما كان يتخيل أحد على وجوده بها، عبير صبري تُعلن اعتزالها بسبب شريط عمرو خالد، ذات السبب تقوله راندا البحيري بطلة فيلم أوقات فراغ عن سبب حجابها، لصديقها الذي ما أن مات صاحب عُمره حتى اعتصم عن الدنيا ولجأ إلى حلقات "ونلقى الأحبّة"، غير عالمين بأن كل هذا التدين "القشري" سرعان ما يزول مع أول خدشة، وقد كان.

 

ممثلات طمعن في الحُسنيين؛ الحجاب والفن، تعلنها مدوية لن تعتزل بعد ارتدائها الخمار، لكنها لن تنزعه بأي مشهد مهما كان داخليًا، تظهر به في المنزل، مع ابنتها، مع زوجها، داخل الحمام وفوق فراشها، فلتسقط الواقعية بمقتل المهم "الحُسنيين"، عاصفة مدوية تهزُّ الكل ما أن تعلن أي فنانة لجوءها للستر، تدفعها فورًا لمصاف النجوم، حتى لو كانت نصف مشهورة، ربع جميلة، ثُمن موهوبة، لقاءات صحفية مطولة، وكاميرات تدور حولها ليل نهار وهي تتحدث عن الإلهام الذي وطر في قلبها ودفعها للهداية، ولا مانع طبعًا من أن تدخل قناة "اقرأ" بثقلها وتستقطب الفنانة المعتزلة لتقدم برنامجًا دينيًا، رغم أن معلوماتها الفقهية لا تتجاوز معلوماتك عن كيفية صيد الحيتان بسلاّكة الأسنان.

 

انتقادات وقحة من أبناء السعودية في مصر لأفلام تاريخية عُمرها أقدم من دولتهم، ينصاع لها الجميع؛ "شيلوا البوس من الأفلام"، لا يعنيهم كثيرًا ضحالة هذا الفيلم أو سخافته فنيًا، المهم ألا يظهر به ذراع الممثلة عاريًا، وقد كان. ظهرت أجيال السينما النظيفة حاملة لواء الانصياع، خوفًا من النار التي تندلع من المآذن؛ محمد هنيدي، محمد سعد، أحمد حلمي وآخرون، سنقدّم في كل الأحوال فنًا هابطًا بلا بوس، فارضوا عنّا ورضوا حتى حين.

 

هل قصد المخرج فلان الفلاني كل هذا في عمله؟ لا أدري، لكني وجدتُ نفسي في شاشته، عائدًا بالزمن 8 سنوات إلى الخلف حين عشنا كل ذلك، وللدهشة، كنا راضيين عنه مدافعين عن هذه "النظافة" المزعومة بكل قوة، ولربما لو نزل هذا الفيلم وقتها، لحملتُ فأسًا وهشمتُ به رأس المخرج والمنتج والممثلين جميعًا.

 

وبالمناسبة، رَقْص ياسمين تحسن جدًا عما كانت عليه في فيلم فتاة المصنع، رغم أن المشهد بالأخير كان "ماستر سين" وفي فيلمنا هذا مجرد لقطة عابرة، فكانت الكفاءة تستحق أن تكون لحظة كيد العريس وليس إثبات مدى فُجر فَجر، ولكن "تقول إيه.. الدنيا حظوظ".