كهرباء لبنان.. هكذا قادت الطائفية اللبنانيين إلى «الظلام»

كتب: عمر مصطفى

فى: العرب والعالم

15:13 11 أغسطس 2020

 

تشكل أزمة نقص الكهرباء في لبنان دليلا فاضحا على ترسخ الطائفية في البلد الذي يفخر بتراثه الثقافي العريق ونخبته المثقفة، حيث حال صراع قادة الطوائف من السياسيين على إقامة محطات الكهرباء المقترحة في مناطق نفوذهم الطائفية، دون حل تلك المشكلة المستعصية التي تحرم اللبنانيين من الكهرباء لساعات طويلة يوميا.

 

ويرى كثير من اللبنانيين أن عجز الدولة عن توفير الكهرباء بشكل يمكن الاعتماد عليه أصبح رمزا لأوجه الفشل الأخرى في البلاد.

 

ومنذ مؤتمر المانحين الذي انعقد في باريس في 2018 أبدى البنك الدولي ودول غربية وعربية استعدادا لضخ مليارات الدولارات لمساعدة لبنان على ترتيب أوضاعه المالية ودعم البنية التحتية بدءا بالكهرباء، وذلك بشرط واحد أن تطبق بيروت إصلاحات من بينها إقامة هيئة تنظيمية للقطاع وتحديث الشبكة وزيادة الأسعار في نهاية المطاف إذ أنها لم تتغير منذ التسعينيات.

 

وعلى مدار العامين الأخيرين ظل المانحون يراقبون الوضع محبطين بينما انهار الاقتصاد اللبناني ولم تطبق أي إصلاحات وتجادل الساسة حول موقع بناء محطة كهرباء جديدة.

 

وكان السبب الرئيسي وراء كل ذلك هو الخلفية الطائفية والفئوية للنظام السياسي في البلاد التي يبلغ عدد سكانها ستة ملايين نسمة موزعين على مذاهب عديدة إسلامية ومسيحية.

 

ويريد أكبر حزب مسيحي في الحكومة وهو التيار الوطني الحر بناء محطة الكهرباء في منطقة مسيحية شمالية على شريط صخري يطل على ساحل البحر المتوسط بالقرب من قرية اسمها سلعاتا. ويقول الحزب إن المحطة ضرورية لأمن الطاقة في لبنان.

 

غير أن أحزابا سياسية أخرى والمانحين الدوليين أثاروا مخاوف من هذه الفكرة لأسباب ليس أقلها أن سلعاتا ليست متصلة بشبكة الكهرباء. ويخشى البعض أن يكون وراء إصرار التيار الوطني الحر على سلعاتا دوافع أخرى من بينها موقعها في جزء يتركز فيه المسيحيون من البلاد.

 

وتكشف وثائق اطلعت عليها رويترز ومقابلات أجرتها مع أكثر من عشرة مسؤولين على دراية بالأمر كيف رفض التيار الوطني الحر تقديم أي تنازلات رغم تنامي علامات الاستفهام حول إمكانية نجاح مشروع سلعاتا وبعد أن أصبح جليا أن المانحين لن يمولوا المشروع في إطار الخطوات الفورية لإصلاح قطاع الكهرباء.

 

ويتيح الفشل في إصلاح قطاع الكهرباء لمحة عن الكيفية التي انزلق بها لبنان إلى أسوأ أزمة تواجهه منذ انتهت في 1990 الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاما وكيف تفسخ النظام المالي تحت وطأة الدين العام فحال بين أصحاب المدخرات وحساباتهم المصرفية وتسبب في عجز الدولة عن سداد الدين السيادي وهوى بقيمة العملة اللبنانية وزاد معدلات الفقر.

 

وزاد انفجار الأسبوع الماضي اللبنانيين بؤسا على بؤس بنشر الدمار في قلب بيروت التجاري وحرمان حوالي 250 ألفا من المأوى. كما جعل انقطاع الكهرباء عمليات إزالة آثار الانفجار أكثر صعوبة وخطورة في الشوارع المظلمة المغطاة بالزجاج المكسور والركام في ظل وجود خطر سقوط الحطام طوال الوقت.

 

وقال جان كوبيس منسق الأمم المتحدة الخاص للبنان إنه بغير إصلاح قطاع الكهرباء من خلال "تدابير فورية وملموسة وسليمة تقنيا واقتصاديا، لا يمكن للبنان أن يوقف الانهيار الاقتصادي والاجتماعي المتزايد ويصبح اللبنانيون محكوما عليهم ببؤس متزايد لن يستطيعوا أن يتحملوه".

 

وقال مصدر دولي مطلع إن مجموعة البنك الدولي أثارت مخاوف بخصوص سلعاتا كموقع لمحطة كهرباء في 2018. وقال المصدر إن التكلفة تتضمن استحواذ الدولة على أراض وردم مناطق من مياه البحر وهو ما يعني أن الاستثمار ليس مجديا.

 

وردا على سؤال عن سبب مطالبة التيار الوطني الحر بإقامة محطة الكهرباء في سلعاتا قال زعيم التيار جبران باسيل لرويترز "أنا إصراري هو على 24 ساعة كهرباء.. الكهربا ما بتنعمل إلا ما تكون موزعة لسلامة الشبكة. اسأل أي خبير. نحن بحاجة الى عدة مواقع".

 

يقوم الحكم في لبنان على نظام طائفي لاقتسام السلطة منذ الاستقلال عن فرنسا في 1943. فلا بد أن يكون رأس الدولة مسيحيا مارونيا ورئيس الوزراء مسلما سنيا ورئيس مجلس النواب مسلما شيعيا. ورغم أن الهدف من هذا النظام هو ضمان تمثيل كل الطوائف الدينية البالغ عددها 18 طائفة فقد ساعد النظام في وقوع لبنان في الأزمة تلو الأزمة، وبلغ الأمر ذروته في حرب أهلية دارت رحاها من 1975 إلى 1990.

 

وكونت الأحزاب الرئيسية المهيمنة على لبنان، سنية وشيعية ودرزية ومسيحية، لنفسها مجالات نفوذ في الدولة واستغلتها في تحقيق أهدافها وتبادلت الاتهامات مع الأحزاب الأخرى فيما تمخض عنه الوضع من فوضى.

 

وفي صدارة الخلاف على قطاع الكهرباء أكبر تكتل مسيحي وهو التيار الوطني الحر الذي أسسه الرئيس ميشال عون واعتبر نفسه حاميا لحقوق المسيحيين. ويقود هذه الحركة جبران باسيل صهر عون وهو وزير سابق للطاقة. وظلت الحركة تشغل هذا المنصب بما يشمله من الإشراف على شركة الكهرباء التابعة للدولة.

 

ومشاكل شركة كهرباء لبنان متجذرة. ومنها عجز في الإنتاج يبلغ 1500 ميجاوات على الأقل وشبكة التوزيع التي تتسبب في هدر كبير وسرقة التيار الكهربائي والتلاعب في العدادات ومشاكل التحصيل. ولم تتغير رسوم الكهرباء منذ التسعينيات الأمر الذي أسهم في خسائر الشركة الضخمة.

 

 

وعندما تنقطع الكهرباء من شبكة الشركة تضطر المنازل إلى الاعتماد على موردين من القطاع الخاص على مستوى الأحياء بثمن باهظ. ويقدر اقتصاديون أن اللبنانيين يدفعون حوالي 1.5 مليار دولار أو أكثر لهؤلاء الموردين الذين يوزعون الكهرباء على الأحياء من خلال مولدات صغيرة وشبكة من الكابلات تتدلى في كثير من الأحيان من أعمدة الإضاءة على نحو محفوف بالخطر.

 

وعندما تولى دياب المسلم السني وفقا للنظام الطائفي منصبه في يناير من العام الجاري بعد استقالة الحكومة السابقة بسبب الاحتجاجات الشعبية تعهد بمواصلة الإصلاحات التي تأجلت طويلا بما في ذلك الإجراءات الكفيلة بالقضاء على الفساد وتحسين عملية تحصيل الضرائب.

 

وحددت خطة طوارئ أعدها البنك الدولي لقطاع الكهرباء أولويات الحكومة في أول 100 يوم من الحكم. ودعت الخطة لبدء عملية شراء لبنان محطة كهرباء في الزهراني وهي منطقة يغلب عليها الشيعة في الجنوب تعتبر على نطاق واسع موقعا مناسبا لأنها بالفعل مقرا لمحطة كهرباء، ومن شأن ذلك أن يسهم في خفض التكاليف.

 

ونصح البنك الدولي بعدم السير في الخطط الخاصة بسلعاتا إلا بعد أن تستكمل الحكومة دراسة لتقييم الآثار البيئية والاجتماعية.

 

وفي إطار الجهود المبذولة لتوجيه لبنان كلف البنك الدولي شركة كهرباء فرنسا بوضع خطة لأقل الخيارات كلفة لتوليد الكهرباء في العقد المقبل. وتوضح مسودة لدراسة الشركة الفرنسية بتاريخ أبريل اطلعت عليها رويترز تفاصيل خارطة طريق لتلبية احتياجات لبنان، وقد حذف السيناريو الأساسي توليد الكهرباء في سلعاتا.

 

وتأخذ الخطة بعين الاعتبار إيجاد قدرات توليد جديدة في الزهراني وفي دير عمار وهي قرية سنية في الشمال بالإضافة إلى مشروعات في مجال الطاقة المتجددة. وقالت المصادر الدولية إنه تم استبعاد سلعاتا لأنها ليست مقنعة من الناحية التقنية.

 

في 14 مايو بدا في نهاية الأمر أن الحكومة تمضي قدما في خطة لزيادة الكهرباء المولدة. وذكر قرار لمجلس الوزراء صراحة موقع محطة الكهرباء الأولى الجديدة فقال إنها يجب أن تقام في الزهراني في الجنوب الشيعي. وقالت مصادر سياسية إن أغلب أعضاء مجلس الوزراء كانوا يؤيدون القرار رغبة في إحراز تقدم.

 

وقال دبلوماسي أوروبي وأربعة مصادر دولية أخرى مطلعة على تفكير الجهات المانحة إن المانحين رأوا في ذلك خطوة في الطريق الصحيح. وقال الدبلوماسي "كانت خطوة ممكنة وعملية للأمام".

 

غير أن القرار سرعان ما اصطدم بعقبة سياسية أخرى. فقد قالت المصادر السياسية إن التيار الوطني الحر اعتبر الخطة محاولة لتنحية سلعاتا جانبا.

 

وطالب الرئيس عون بإعادة النظر في القرار مشيرا إلى أن الخطة الأصلية للحكومة لإصلاح القطاع اشتملت على ثلاث محطات إحداها في سلعاتا. وفي جلسة عقدها مجلس الوزراء برئاسة عون في القصر الجمهوري بعد ذلك بأسبوعين أكدت الحكومة التزامها بالخطة الأصلية الموضوعة في 2019.

 

وأصبحت سلعاتا موضوعا للحديث في البرامج الحوارية بالتلفزيون. وعلت الأصوات في برنامج حواري تلفزيوني يحظى بمتابعة واسعة في يوليو عندما صاح أحد أنصار عون قائلا إن المسيحيين يستحقون أن تكون لهم محطة كهرباء.

 

وسألت رويترز جبران باسيل زعيم التيار الوطني الحر عما إذا كان حزبه يدعو لإقامة محطة كهرباء في سلعاتا لأسباب طائفية فرد قائلا "لما بده ينحكى بلبنان إنماء متوازن وتوزيع مشاريع، هيدا الكلام ما بعود بصح على فريق وما بصح على فريق ثاني. طب ليه ما بتقول هيك عن اللي بده معمل الزهراني؟ ليه ما بتقول عن اللي بده معمل دير عمار؟ بس على معمل سلعاتا؟"

 

ويسلم المانحون بحق لبنان في اختيار مواقع إقامة محطات الكهرباء لكن لبنان يحتاج لأموال المانحين الذين أصابهم جمود الوضع بالإحباط. وقال أحد المصادر الدولية المطلعة على الأمر "تمويل محطتين للكهرباء سيكون صعبا وهم يريدون منا تمويل ثالثة دون أي تفسير منطقي ... الكل قال لهم لا بالنسبة لسلعاتا".

اعلان