في زمن كورونا

صور| بطلات بالجيش الأبيض يروين لـ«مصر العربية» قصة دخولهن عالم تغسيل الموتى

كتب:

فى: أخبار مصر

00:30 07 مايو 2020

ابنٌ رفض الحضور للصلاة على والده، وسيدة فارقت الحياة امتنع أهلها عن استلام جثمانها، وأخرى وضعت توأمًا ثم لفظت أنفاسها الأخيرة، كانت هذه بعضًا من القصص القاسية التي دارت أحداثها داخل مستشفيات الحجر وعايشتها اثنتان من بطلات الجيش الأبيض وكانتا جزءًا لا يتجزأ من أحداثها..

 

تواصلت (مصر العربية) معهما، ليس فقط لدورهن في محنة كورونا بين أروقة مستشفيات الحجر ولكن ايضًا لدخولهن عالم تغسيل الموتى، عن طيب خاطر رغم عزوف أقرب الأقربين والمغسلين خوفًا من العدوى.

 

فهاتين الطبيبتان وآخريات لم يعلمن ذات يوم أن القدر سيقودهن إلى داخل غرف تغسيل الموتى، فلأول مرة في حياتهن يجدن انفسهن يقفن أمام جثامين  لأشخاص لا يعروفهم، وعليهن القيام بتغسيلهم بناءً على رغبة شخصية نابعة  من داخلهن بعدما وجدن عزوف وخوف البعض من القيام بتلك المهمة، نظرًا لأن المتوفى فارق الحياة متأثرًا بإصابته بفيروس كورونا.

 

الطبيبتان اللتان تواصلت (مصر العربية) معهما إحداهما تعمل في حجر النجيلة بمطروح وهي من غسلت أول سيدة توفيت بالمستشفى، التي رفض اهلها استلام جثمانها، أما الطبيبة الثانية فهي شابة ثلاثينية خاضت أول تجربة في حياتها لتغسيل الموتى لأم  وضعت طفليها التوأم ثم فارقت الحياة ولم يجد جسمانها من يغسله فتطوعت تلك الطبيبة  بتلك المهمة.

 

 ففي الوقت الذي غاب أهل بعض  الضحايا  عن وداع محبيهم خوفًا من انتقال العدوى اليهم، تجلت اسمى معاني الانسانية بمشهد آخر على النقيض لهاتين الطبيبتين اللتان كانتا بمثابة السند والضهر  لمن فارقن الحياة اثر اصابتهن بكورونا، ولم يجدن من يغسلهن فتولين هن تلك المهمة دون التفكير كثيرًا.

 

 

شيرين عبد الواحد، هي طبيبة شابة عمرها لا يتخط الثلاثون عامًا، وهي أم لطفلتين، ظلت على مدار شهرين متواصلين تعمل بمستشفيات الحجر  بأسيوط. 

 

فالشهر الأول كانت في مستشفى صدر اسيوط تمارس مهامها كرئيسة لجنة مكافحة العدوى، تتابع الحالات على مدار الساعة مع اخذ كافة احتياطات الأمان، ثم تعود في نهاية اليوم لبيتها واطفالها، أما الشهر التالي فكلفت بالتوجه للعمل بمستشفى حجر أبو تيج بإحدى قرى أسيوط على مدار الأربعة وعشرين ساعة.  

 

حينما كُلفت الأم الثلاثينية بمهامها داخل مستشفى الحجر لم تفكر كثيرًا ووافقت على الفور بدافع المسئولية الاجتماعية وبدعم وتشجيع من رفيق دربها وحبيبها الذي يعمل ضابطًا، تاركة طفلتيها صاحبتان الـ 6 و4 أعوام، إحداهن عند والدتها والأخرى عند حماتها. 

 

 

على مدار تلك المدة اصبحت "شيرين" تقتنص لحظات الاستراحة فيما بين الشفت الصباحي والمسائي  لتلتقى ابنتيها  من وراء شاشة الهاتف الصغيرة في مكالمة فيديو تجمعهما، فتفاجئها احداهن برسمة دونت عليها عبارة "ماما تتحدى الكورونا". 

 

 

داخل غرفة تغسيل الموتى  

 

وعن قصة دخول الطبيبة الشابة عالم تغسيل الموتى روت لنا قائلة: حضر للمستشفى سيدة مصابة تُدعى هالة خطفت انظار وقلوب المتواجدين من الفرق الطبية كونها كانت حامل ووضعت للتو طفليها التوأم، وهي في هذه الحالة، فبات الجميع يسأل عنها باستمرار إلا أنها فارقت الحياة. 

 

"نحن في قرية يأبى قاطنوها التعامل مع المستشفى بأي شكل من الأشكال"؛ بتلك العبارة استكلمت الطبيبة الشابة حديثها إلينا قائلة: حينها تسائلت فيما بيني وبين نفسي هل سنترك "هالة" في ثلاجة حفظ الموتى لحين العثور على من يغسلها؟ 

 

 

لم تستغرق "شيرين" كثير من الوقت في التفكير وسرعان ما أمسكت بهاتفها واتصلت بزوجة عمها التي تعمل في جامعة الأزهر  وسألتها عن طريقة الغسل الشرعية، فساعدتها بجعلها تتواصل مع شخص يفيدها في هذا الأمر. 

 

 

ارتدت الفتاة الثلاثينية الملابس الواقية بإحكام، بعدما عقدت العزم على تولي مهمة تغسيل "هالة"،  وبالداخل اتصلت بهذا الشخص المُلم بتفاصيل الغسل، وظل معها على الهاتف ما يقارب من الساعة وهي تسير معه خطوة بخطوة   في عملية تغسيل الأم التي ماتت متأثرة باصابتها بكورونا.

 


 

كانت تجربة الغسل جديدة تمامًا على صاحبة الثلاثين عامًا، التي لم يطاوعها قلبها أن تترك الأم المتوفية دون تغسيل، أو في انتظار الفرج لمن يأخذ حبوب الشجاعة ويدخل ليغسلها، ومن بعدها صارت "شيرين" متعهدة تغسيل الموتى السيدات هي وبعض  من الطبيبات  اللاتي تطوعن لهذا الغرض إلى جانب مهامهن في حجر أبو تيج بمبادرة تطوعية منهن دون انتظار مقابلًا أو شكورًا من أحد. 

 

 

أصعب المواقف 

 

وعن اصعب اللحظات والمواقف التي مرت على "شيرين" خلال فترة اقامتها بالحجر الصحي في "أبو تيج" بأسيوط"، فإنها جاءت على النحو التالي حسبما روتها لنا "شيرين": 

 

 

ابن رفض الحضور للصلاة على والده

 

"عم فتحي" كان من أكثر الحالات التي ابكت الجميع بعدما ظل قابعًا في ثلاجة حفظ الموت ليوم كامل في انتظار حضور ابنه للصلاة عليه؛ فكانت الصدمة حيث روت شيرين قائلة: "قلنا لابنه يجي يصلي على باباه لكن رفض".

 

استكلمت "شيرين" والألم يعتصر صوتها: "مشهد رفض الابن شئ كان فوق الخيال والتصديق، فنحن كنا حريصين على تغليف الجثمان بأكثر من شكل وطريقة ووضعه في صندوق محكم الاغلاق، فكيف طاوع قلب نجله عدم الحضور لتوديع والده بالصلاة عليه" مضيفه: "إذا كان احنا كنا حريصين يروح لمثواه الأخير في احسن صورة  بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه فازاي ابنه يفكر كده تحسي فيه حاجة غلط". 

 

 

 

عطل اجهزة التعقيم

من بين اللحظات الصعبة التي حفرت بذاكرة "شيرين" ذاك اليوم الذي تعطلت فيه اجهزة الأوتوكلاف الخاصة بالتعقيم، حيث تقول: "اعتمادنا كله عليها، ولما فوجئنا إن الأجهزة وقفت مرة واحدة اتصلنا بمهندس الصيانة وشرح لنا بالتليفون اللي المفروض نعمله وشغلناها". 

 

الآن "شيرين" تلتقط انفسها لمدة 15 يومًا في بيتها بعد شهرين متتاليين من العمل على أن تعود للاقامة مجددًا داخل الحجر تتابع مهامها بعد انتهاء مدة الاسبوعين. 

 

 

 

تغسيل أول سيدة يرفض ذويها استلامها

 

ومن أسيوط إلى مطروح سجلت طبيبة أخرى بطولة من نوع خاص بإقدامها على خطوة تغسيل موتى كورونا  لأول مرة في حياتها رغم  أنها على مشارف الـ 60 من عمرها، فمع وفاة أول سيدة في مستشفى النجيلة التيرفض اهلها استلام جثمانها، وخشى الجميع من تغسيلها قررت الطبيبة صاحبة الـ 57 عامًا على الفور بمجرد أن نما إلى علمها الخبر أن تقوم هي بعملية تغسيلها بنفسها وهي التي لم تقم بهذا الأمر من قبل. 

 

 

 

تلك البطلة الخمسينية هي طبيبة استشاري  تخدير وعناية تدُعى شيرين إسماعيل،  لم تغادر مستشفى النجيلة منذ اليوم الأول لتخصيصها كحجر طبي منذ  وصول مصريين قادمين من ووهان حيث بؤرة تفشي الوباء آنذاك، وظلت تعمل على مدار الساعة، مع الفريق الطبي هناك.  

 

أخبرتنا "شيرين" أنها قامت بتغسيل أول متوفية في مصر رفض ذويها القدوم لاستلام جثمانها، ووقعت تفاصيل تلك القصة حسبما روتها لنا على النحو التالي: "حينما توفيت أول مصابة بفيروس كورونا في مستشفى النجيلة، ارتبك المتواجدين نتيجة تخوف تملك البعض من تغسليها.

 

تقول الطبيبة الخمسينية: عندما تخوفت الطبيبات الصغيرات في السن من خوض تلك المغامرة الأولى في المستشفى وهذا حقهن، لجأ لي مدير المستشفى بشكل غير مباشر، حيث وجدت احدهم يطرق الباب ويخبرني بما حدث قائلًا دكتور محمد متردد يقولك انه محتاجك تغسلي جثمان أول متوفية..". 

 

 

 

من بين الصور التي ارسلتها لنا دكتور شيرين اسماعيل

 

 

لم يكد يكمل الرجل العبارة حتى انتفضت طبيبة التخدير من مكانها وجرت على لسانها عبارة: "أنا جاية جري وراك طبعًا". 

 

لم تفكر صاحبة الخمسين في سنها أو أن الأمر بحاجة لمجهود بدني وهي التي  كانت اجرت عملية تركيب مسامير في ظهرها منذ فترة ليست ببعيدة، فها هي تخبرهم  أنها على استعداد فورًا لتغسيل تلك السيدة، فقط طلبت منهم أن يحفظوها خطوات التغسيل. 

 

ارتدت الطبيبة الملابس الواقية وساعدها زملائها الذين حرصوا بشدة ألا تكون هناك اي غلطة منعًا لانتقال الاصابة إليها وهي تقوم بعملية التغسيل ولم يتركوا اي منفذ في ملابسها الواقية هي واثنين من بنات التمريض اللاتي قررن التطوع معها ومساعدتها. 

 

 

"ارموها في اي حفرة في الصحرا"

دخلت "شيرين" وبرفقتها الفتاتين وشرعا في عملية التغسيل باتقان شديد، لتلك السيدة التي لم تجد ايًا من ذويها إلى جوارها في مراسم الوداع الأخيرة بعد رفضهم تسلم جثمانها، وكان فقط  بجوارها تلك الطبيبة الخمسينية التي لم تفكر في حياتها قدر حرصها على أن تلقى المتوفية ربها بعد تغسيلها تمامًا في كفنها الأبيض. 

 

تقول شيرين أنها حينما اتصلت بذوي المتوفية كي يأتوا ليتسلموا الجثمان، جاء الرد : "مش هنستلمها ارموها في اي حته في الصحرا". 

 

بعد نحو ساعة إلا ربع داخل غرفة تغسيل الموتى، خرجت الطبيبة الخمسينية واستقبلها زملائها عند الباب برش المطهرات عليها بالكامل ثم دخلت العزل لمدة يومين بناءً على اتفاق سابق من مدير المستشفى محمد على لها قبل دخولها للتغسيل قائلة: "هو قالي لو دخلتي تغسلي هتخرجي تعزلي نفسك في اوضتك يومين ". 


 

في اليوم الثالث تم استدعائها لتغسيل سيدة ثانية توفيت متأثرة باصابتها بفيروس كورونا، ومنذ ذاك الحين باتت "شيرين" جاهزة لتغسيل اي حالة تفارق الحياة داخل أروقة المستشفى، بنفس راضية وبقناعة تامة من داخلها اعلنتها منذ اليوم الأول بأنها ستتبرع لفعل هذا الأمر نظرًا لعلمها عدم امكانية دخول اي شخص من الخارج لعدم انتقال العدوى له، ونظرًا لأن التعامل في الأوبئة يكون مغايرًا عن اي يوم آخر.

 

خطوة الطبيبة الجريئة في تغسيل المتوفية الأولى شجع العديد من الطبيبات الصغيرات في السن داخل مستشفى النجيلة والتمريض ايضًا في التطوع معها لهذا الأمر.  

 

 

 

الطبيبة الخمسينية  هي أم لـ 3 أبناء جامعيين تقيم في الأساس بالقاهرة، برفقة والدتها الكبيرة في السن، تقول: أنا من مديرين مستشفى أحمد ماهر، ودائمًا ما كنت اشعر أنني اريد أن اخدم بلدي، ففكرت منذ سنوات في السفر لخدمة الأهالي عند الحدود في فترات صعبة،  كان هدفى أن اشعرهم أنه يوجد من يحبهم ويفكر بهم ثم انتقلت ". 

 

فقبل ازمة كورونا كانت الطبيبة الخمسينية تقطع مئات الكيلو مترات بسيارتها الخاصة من القاهرة لمطروح كل 15 يومًا وبرفقتها صديقها الصدوق الكلب بيلي،  بعدما انتقلت للعمل لمطروح، حيث كانت مع أوائل من افتتحوا مستشفى النجيلة، ومنذ ذاك الحين باتت تتردد إلى تلك المحافظة كل اسبوعين للعمل دون انتظار مقابل ثم تعود لبيتها تجلس مع ابنائها وامها للقيام بواجبتها المنزلية".

 

ومع حلول ازمة كورونا، باتت دكتورة شيرين مقيمية في حجر النجيلة لم تغادره ولا تفكر في الرحيل منه إلا بعد انتهاء الأزمة. 

 

اعلان